وكذا ما يقال من أن ذكر تقديم المستثنى فى موجبات التعقيد لا يصح ، لجريانه على القانون النحوى ؛ لأن ذلك مبنى على أن ضعف التأليف يلزم من نفيه نفى التعقيد اللفظى ، وقد تقدم عدم الاستلزام بأن تقديم المستثنى مما يزيد التعقيد فيصح ذكره فى موجباته (وإما فى الانتقال) أى : يحصل التعقيد بصعوبة فهم المراد لخلل واقع فى تأليف اللفظ أو لخلل واقع فى الانتقال أى : فى انتقال الذهن من معنى اللفظ الأصلى إلى معنى آخر ملابس للأصلى ، قد استعمل اللفظ ليفهم منه ذلك الملابس على وجه الكناية أو المجاز ، فإن شرط فصاحة الكناية والمجاز أن يكون الفهم سريعا لكون المعنى الثانى المراد كناية أو مجازا قريبا فهمه من الأصل فى تركيب الاستعمال العرفى ، وأما إن لم يكن كذلك بأن كان فهم الملابس بعيدا عن الفهم عرفا ، بحيث يفتقر فى فهمه إلى وسائط التفكرات الكثيرة ، فالحاجة إلى كثرة الترددات فى الفكر هى الموجبة لعدم سرعة الفهم ، فالمراد بكثرة الوسائط كثرة التفكرات المحتاجة فى الفهم ، ويحتمل أن يكون مراد من قال : إن سبب الصعوبة الوسائط الكثيرة الوسائط الحسية وخصها بالذكر ؛ لأن غالب الصعوبة معها وفيه ضعف لأن مناط الصعوبة ما تقدم كما سنبينه الآن ، ويلزم من بعد الفهم خفاء القرائن ، وقد علم من قولنا بعيدا عن الفهم عرفا أن المناط فى الصعوبة عدم الجريان على ما يتعاطاه أهل الذوق السليم ، لا كثرة الوسائط الحسية ، فإنها قد تكثر من غير صعوبة ، كما يأتى فى قولهم : فلان كثير الرماد كناية عن المضياف فإن الوسائط كثيرة فيه ولكن لا تعقيد ، ولما كانت الصعوبة مظنة اضطراب الفكر ، والفكر هى المؤدية إلى الفهم صح جعلها وسائط ووصفها بالكثرة ، ثم مثل للخلل الموجود فى الانتقال بقوله : (كقول الآخر) ولم يقل كقوله ؛ لئلا يتوهم أنه الفرزدق :
(سأطلب بعدا لدار عنكم لتقربوا |
وتسكب عيناى الدموع لتجمدا) (١) |
فقد عبر بسكب الدموع لينتقل من معناه إلى لازمه الذى هو وجود الحزن الذى يحصل كثيرا عن فراق الأحبة ، وهذا أمر سريع الإدراك عرفا ، ولهذا يقال : أبكاه
__________________
(١) البيت للعباس بن أحنف ، في ديوانه ص ١٠٦ ، ط دار الكتب ، والإيضاح ص ١٦ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٦٨.