واضحا جليا ، وأمكن من لم تكن له بها دربة ولا معرفة الفرق بين فصيح الكلام وغيره باعتبار الصفات التي ذكرتها ، وكانت منزلة هذا الكتاب لمن لا يعرف البلاغة وطلاوة الكلام منزلة العروض لمن لا ذوق له يميز به بين صحيح النظم وفاسده ، والنحو لمن لا يعرف طبعا وعادة ، وإنما يتكلف ويتصنع ، وليس يمكن إيضاح الفصاحة لمن يجهلها إلا بهذا السبب وعلى هذا النحو ، لأن من له بها معرفة وسابق علم إنما حصل له ذلك بالمخالطة والمناشدة ، وتأمل الأشعار الكثيرة ، والكلام المؤلف ، على طول الوقت وتراخي الأزمنة ، وليس يمكنه أن يحضر لمن أراد تعليمه كل بيت سمعه ، وفصل تأمله ، ولفظة كرهها ، ومعنى حكم بفساده أو بصحته ، لأن هذا يحتاج إلى الزمان الطويل والأيام الكثيرة ، بل ولا يمكن حصوله ألبتة ، فلا طريق إلى العلم بما شرحته إلا من هذا النحو الذي قصدته ، والطريق الذي سلكت فيه.
فأما من يفرق بين الكلام المختار وغيره فإنه وإن كان غير مفتقر إلى كتابي هذا كافتقار العاري من هذه الصناعة الراغب في اقتباسها ، فهو محتاج إليه من وجه آخر منزلته أيضا منزلة العروض والنحو لصاحبي الذوق والطبع ، لأنّ العالم بالفصاحة إذا قطع على فصاحة بيت من قصيدة أو فصل من رسالة أو كلمة أو ما أشبه ذلك وفضّله على غيره لم يمكنه أن يبين من أين حكم ، ولا لأيّ وجه فضل ، بل إنما يفزع إلى مجرد دعواه ومحض قوله ، فإذا عرف ما بينته وفصّلته في هذا الكتاب علّل واستدلّ ، وذكر الوجوه والأسباب ، كما أن العارف صحيح النظم بذوقه والمعرب بطبعه وعادته إذا وقف على علم العروض والنحو علل في البيت الموزون والكلمة المعربة ، وقال : هذا إنما كان صحيح الوزن لأنه من الدائرة الفلانية ، والبحر الفلاني ، وضربه كذا وعروضه كذا وعدد أجزائه كذا ، وذكر ما يحسن فيه من الزحاف ويقبح ، وفصّل ما يفصله العروضيون ، وقال في الكلمة المعربة : إنما كانت مثلا مرفوعة لأنها فاعلة والفاعل في كلام العرب مرفوع ، وما يجري هذا المجرى ، وعلى مثل هذا النحو يقول في الفاسد الذي ينفر منه ذوقه أو يكرهه طبعه ، ويعلله على حد هذا التعليل الذي ذكرته.