فإنا نجد الألفاظ على هذه الصفة ، فبطل من هذا الوجه أن تكون آلة ، وفساد أن تكون الألفاظ هي الصانع المؤلف أو الصورة المصنوعة أو الغرض المقصود ظاهر لا يخفى على أحد ، فمتى أخرجت الألفاظ من أن تكون موضوعا لصناعة التأليف أخرجتها من جملة الأقسام المعتبرة في كل صناعة ، ونحن نجد تعلقها ظاهرا ، فإن قال لنا : ما تقولون أنتم في المعاني مع أن علقتها أيضا وكيدة؟ قلنا : المعاني وتأليف الألفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع ، وهي التي تكمل الأقسام المذكورة ، فأما الألفاظ فليست من عمله ، وإنما له منها تأليف بعضها من بعض حسب ، وقد وقفت في بعض المواضع على كلام في هذه الصناعة ـ لا أعلم الآن صاحبه قدامة أو غيره ، لأني قد أنسيت الكتاب الذي وجدته فيه ـ يدل على أن الألفاظ موضوع كما قلنا ، إلا أنه يدعي أن الناظم متى ألف لفظة رديئة فليس ذلك بعيب عليه ، كما أن النّجار إذا صنع كرسيا من خشب رديء فليس بعيب في صناعته ، وقد أحكمها كون الموضوع الذي هو الخشب رديئا ، وهذا الذي ذكره هذا القائل فاسد ، وذلك أن النجار يعاب إذا كان قليل البصيرة بموضوع صناعته ، ولو تمكن من عمل ذلك الكرسي الذي مثّل به من خشب مرضّى فعدل عنه إلى خشب رديء جهلا منه بالمختار من هذا الجنس كان معيبا عند أهل صناعته ، وإنما يتوجه له العذر إذا سلم إليه خشب رديء لتظهر صناعته فيه ، فإنه عند ذلك لا يعاب لأجل الخشب ، فأما ناظم الكلام فقادر على اختيار موضوعه ، غير محظور عليه تأليف ما يؤثره منه ، فمتى عدل عن ذلك جهلا أو تسمّحا توجه الإنكار واللوم عليه ، وكان أهلا له وجديرا به ، على أن كلامنا في الصورة نفسها ، ولا شبهة في قبح صورة الكرسي المصنوع من رديء الخشب ، وإن كان النجار قد أحكم عمله.
ومع هذا البيان كله فالفصاحة عبارة عن حسن التأليف في الموضوع المختار ، فإذا كنت قد ذكرت الموضوع والوجه في اختياره وعلى أي صفة يكون المرضي منه والمكروه بما فيه مقنع أو كفاية ، ثم شرعت الآن في الكلام على التأليف بحسب ذلك ، وبينت منه الوجوه التي بها يحسن أو يقبح ـ كان الكلام في معرفة الفصاحة وحقيقتها