وكذلك الصابر ، فأما الندى فمخالف لذلك ، لأن الإنسان إذا علم أنه يموت هان عليه بذل ماله ، وكذلك يقول إذا عوتب في بذله : كيف لا أبذل ما لا أبقى له؟ ومن أين أثق بالتمتع بهذا المال؟ والأمر في هذا ظاهر ، قال طرفة :
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي |
|
فذرني أبادرها بما ملكت يدي (١) |
وقال مهيار بن مرزويه :
وكل إن أكلت وأطعم أخاك |
|
فلا الزاد يبقى ولا الآكل |
وأما إذا كان الإنسان خالدا في الدنيا ثم جاد بماله فلعمري إن كرمه يكون أفضل ، وبذله لماله أشد ، والأمر في ذلك مخالف لحكم الشجاعة بغير شك ، لأن تلك لو لا الموت لم تحمد ، والندى بالضد. وإذا كان الأمر على هذا كان قوله : والندى حشوا يفسد المعنى ، وقد قال الشريف المرتضى علم الهدى رضياللهعنه : إن المراد بالندى في البيت بذل النفس لا بذل المال ، كما قال مسلم بن الوليد :
يجود بالنفس إذ ضنّ البخيل بها |
|
والجود بالنفس أقصى غاية الجود |
قال : وإذا جاز أن يسمى بذل النفس جودا جاز أن يسميه ندى أيضا وكرما وسخاء ، وهذا الذي ذكره ـ رحمهالله ـ أقصى ما يجوز أن يتأوّل به ، ولا يحمل قول الشاعر على الفساد ، وأما إذا عدنا إلى التحقيق علمنا أن لفظ الندى المطلق لا يفيد إلا بذل المال والكرم ، ولا يكاد يستعمل في بذل النفس ، وإن استعمل فعلى وجه الإضافة ، فأما مع الإطلاق فلا يفيد ذلك ، ثم إذا سوغنا ما ذهب إليه ـ على بعده ـ كان لفظ : الندى حشوا ؛ لأن الشجاعة قد أغنت عنه ، فيمكن حمل هذا البيت على الحشو الذي يختلّ به المعنى على ما ذكرناه من تأويله الظاهر ، وعلى الحشو الذي يكون غير مؤثر في الكلام على ما خرّجه الشريف رحمهالله وتأوله.
__________________
(١) انظر ديوانه ، ص ١٤٨.