عليهم ، بل نتوسط ـ إن شاء الله ـ بين هاتين المنزلتين ، فننظر في أقوالهم ، ونتأمل المأثور عنهم ، ونسلط عليه صافي الذهن ، ونرهف له ماضي الفكر ، فما وجدناه موافقا للبرهان وسليما على السبر اعترفنا بفضيلة السبق فيه ، وأقررنا لهم بحسن النهج لسبيله ، وما خالف ذلك وباينه اجتهدنا في تأويله إقامة المعاذير فيه ، وحملناه على أحسن وجوهه وأجمل سبله ، إيجابا لحقهم الذي لا ينكر ، وإذعانا لفضلهم الذي لا يجحد ، وعلما أنهم لم يؤتوا من ضلالة ، ولا كلال ذهن وفطنة ، ولكن لاستمرار هذه القضية في المحدثين ، وعمومها أكثر المخلوقين ، ومن الله نستمد التوفيق والمعونة برحمته.
فهذه الجملة تكشف لك عن نهج الاستعارة ، وتوضح كيف تقع الألفاظ موقعها في المجاز ، فأما الحقيقة فلا نحتاج فيها إلى مثال ، لأن أكثر الكلام على ذلك ، ولكن هاهنا ألفاظ قد وضعت في غير موضعها ليس على وجه الاستعارة ولا الحقيقة ، فأنا أذكر لك منها ما تجعله دليلا على الباقي ، وتعتبر في الكلام الذي تؤثر معرفة حظه من الفصاحة أن يكون خاليا من مثل تلك الألفاظ ، بل كل كلمة منه موضوعة في موضعها اللائق بها إما حقيقة أو على وجه المجاز السائغ المختار الذي نبهتك على علمه ، فمن تلك الألفاظ قول أبي تمام :
سعى فاستنزل الشرف اقتسارا |
|
ولو لا السّعي لم تكن المساعي (١) |
فإن استنزال الشرف ليس بحقيقة فيه ولا على وجه الاستعارة الصحيحة ، لأن الشرف إذا حط وأنزل فقد وصف بما لا يليق به من الإنزال والخفض ، والمحمود في هذا أن يقال : رفعت منار الشرف وشيدته ، فهو سام على الكواكب ، وعال عن درجة الأفلاك ، فأما : استنزلته ، فلا يحسن في هذا الموضع البتة ، وقد كان يمكنه أن يعبر عن نيله الشرف ووصوله إليه بغير استنزاله ، فإن الرجل الشريف الآباء لو ذم لكان أبلغ ما يذم به أن يقال : حططت شرفك ووضعت منه ، وما يجري هذا المجرى. فهذا هو وضع الألفاظ في غير الموضع الذي يليق بها.
__________________
(١) «ديوان أبي تمام» ٢ / ٣٣٩. من قصيدة في مدح مهدي بن أصرم.