قال : فلم يحر جوابا غير أن قال : إذا استبرت نفسي (١) وجدت بين استعارة ابن أحمر للريح لبّا واستعارة أبي الطيب للطيب قلوبا بونا بعيدا ، وربّما قصر اللسان عن مجاراة الخاطر ، ولم يبلغ الكلام مبلغ الهاجس ، ثم قال القاضي أبو الحسن : وقد أجد لهذا الفصل الذي تخيل له بعض البيان ، وذلك أن الريح لما خرجت بعصوفها عن الاستقامة وزالت عن الترتيب شبهت بالأهوج الذي لا مسكة في عقله ، ولا زبر للّبه ، ولما كان مدار الهوج على الالتياث في العقل حسن من هذا الوجه أن يجعل للريح عقلا ، فأما الدهر فإنّما يراد بذكره أهله ، فإذا جعل الممدوح للدهر ساعدا وعضدا ومنكبا فقد أقيم أهله مقام هذه الجوارح من الإنسان وليس للطيب والبيض واليلب ما يشبه القلب ، ولا ما يجري مع هذه الاستعارة في طريق ، ثم قال ابن عبد العزيز : وإنما يحمل ما جاء من ألفاظ المحدثين وكلام المولدين زائلا عن السنن على وجوه تقربهم من الإصابة ، وتقيم لهم بعض العذر ، وتلك الوجوه تختلف بحسب اختلاف مواضعه ، وتتباين على قدر تباين المعاني المتضمنة له ، فإذا قال أبو الطيب :
مسرة في قلوب الطيب مفرقها (٢)
فإنما يريد أن مباشرة مفرقها شرف ، ومجاورته له زين ومفخرة ، وأن التحاسد يقع فيه ، والحسرة تعظم عليه ، فلو كان الطيب ذا قلب لسرّ كما لو كانت البيض ذوات قلوب لأسفت ، وإذا جعل للزمان فؤادا ملأته هذه الهمة فإنما أورده على مقابلة اللفظ باللفظ ، فلما افتتح البيت بقوله :
تجمعت في فؤاده همم (٣)
ثم أراد أن يقول : إحداها تشغل الزمان وأهله ، ترخّص بأن جعل له فؤادا ، وأعانه
__________________
(١) إذا استبرت نفسي : إذا اختبرت نفسي غورها.
(٢) سبق تخريجه ص ١٢٠.
(٣) سبق تخريجه ص ١٢١.