على ذلك أن الهمة لا تحلّ إلا الفؤاد ، وسهّله ما تقدم من تسامح الشعراء في نعوت الدهر ، وتوسعهم في استعارة الأوصاف له ، وإذا قال أبو تمام :
يا دهر قوّم من أخدعيك (١)
فإنما يريد : اعدل ولا تجر ، وانصف ولا تحف ، لكنه لما رآهم قد استجازوا أن ينسبوا إليه الجور والميل ، وأن يقذفوه بالعسف والظلم ، وبالخرق والعنف ، وقالوا : قد أعرض عنا ، وأقبل على فلان ، وقد جفانا وواصل غيرنا ، وكان الميل والإعراض إنما يكون بانحراف الأخدع وازورار المنكب ، استحسن أن يجعل له أخدعا ، وأن يأمره بتقويمه ، وهذه أمور متى حملت على التحقيق وطلب فيها محض التقويم أخرجت عن طريقة الشعر ، ومتى اتبع فيها الرخص وأجريت على المسامحة أدت إلى فساد اللغة واختلاط الكلام ، وإنما القصد فيها التوسط والاجتزاء بما قرب وعرف ، والاقتصار على ما ظهر ووضح ، وهذه حكاية كلام القاضي أبي الحسن.
ونحن نذكر ما عندنا في كل فصل منه ، والانتفاع به في فهم الاستعارة ظاهر.
أما الذي أنكر على أبي الطيب استعارته فلم يضع يده إلا على ما تشهد الأفهام له ، وتقطع العقول على صحته. وأما اعتذار القاضي له بالأبيات التي ذكرها ، فإن كان قصد بذلك التنبيه على أن أبا الطيب غير مبتدع لهذا الزلل ولا مخترع ، بل هو مشارك فيه مماثل له ، وقد تقدمه من سلك هذا الطريق ، ونحا هذا النحو ، فإن وجب اطراح شعر أبي الطيب لهذا السبب وجب اطراح الأشعار كلها ، لأن العلة واحدة ، فعلى الوجه الكلام في موضعه ، وإن كان القصد بذلك إقامة العذر للمتنبي وترك الإنكار عليه ، إذ كان النهج الذي سلك فيه مطروقا ، فليس هذا الرأي من معتقده بصواب ؛ لأن القول في استعارة أبي الطيب إذا كانت بعيدة غير مرضية كالقول في كل استعارة كذلك سواء كانت لمتقدم او لمتأخر ، وليس يتميز قبحها بإضافتها إلى رجل من الرجال ، ولا زمان من
__________________
(١) سبق تخريجه ص ١٢٠.