باب فى أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة
اعلم أن أكثر اللغة مع تأمّله مجاز لا حقيقة. وذلك عامّة الأفعال ؛ نحو قام زيد ، وقعد عمرو ، وانطلق بشر ، وجاء الصيف وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية فقولك : قام زيد ، معناه : كان منه القيام أى هذا الجنس من الفعل ، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام ؛ وكيف يكون ذلك وهو جنس والجنس يطبّق (١) جميع الماضى وجميع الحاضر وجميع الآتى الكائنات من كل من وجد منه القيام. ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد (فى وقت واحد) ولا فى مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم ؛ هذا محال عند كل ذى لبّ. فإذا كان كذلك علمت أنّ (قام زيد) مجاز لا حقيقة ، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير. ويدلّ على انتظام ذلك لجميع جنسه أنك تعمله فى جميع أجزاء ذلك الفعل ؛ فتقول : قمت قومة ، وقومتين ، ومائة قومة ، وقياما حسنا ، وقياما قبيحا. فإعمالك إيّاه فى جميع أجزائه يدلّ على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها. وإنما يعمل الفعل من المصادر فيما فيه عليه دليل ؛ ألا تراك لا تقول : قمت جلوسا ، ولا ذهبت مجيئا ، ولا نحو ذلك لمّا لم تكن فيه دلالة عليه ؛ ألا ترى إلى قوله :
لعمرى لقد أحببتك الحبّ كله |
|
وزدتك حبّا لم يكن قبل يعرف |
فانتظامه لجميعه يدلّ على وضعه على اغتراقه واستيعابه) وكذلك قول الآخر :
فقد يجمع الله الشتيتين بعد ما |
|
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا (٢) |
فقوله (كل الظنّ) يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه. قال لى أبو علىّ : قولنا : قام زيد بمنزلة قولنا خرجت فإذا الأسد ، ومعناه أن قولهم : خرجت فإذا الأسد تعريفه
__________________
(١) يطبّق : أى يعم.
(٢) البيت من الطويل ، وهو للمجنون فى ديوانه ص ٢٤٣ ، وشرح التصريح ١ / ٣٢٨ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٢ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٢ / ٢١٣ ، وشرح الأشمونى ١ / ٢١٠ ، ولسان العرب (شتت) ، ويروى : (وقد) مكان (فقد).