قوله فيما بعد «فتلك مساكنهم لم تسكن إلا قليلا» أي لقد زهوا بها حينا من الدهر وغرتهم الأماني ، وأبطرتهم النعمة ، وكان ديدنهم ديدن المترفين الرافلين في حلل السعادة ، فما عتموا أن فنوا وطوتهم الأيام وبقيت آثارهم شواخص ، أطلالا باهتة ، ورسوما محيلة ، تهزأ بهم ، وتدل الآخرين على أفن رأيهم وطيش أحلامهم. وقد رمق المتنبي سماء هذه البلاغة العالية في قصيدته الخالدة التي رثى بها أبا شجاع فاتكا فقال بيته المشهور :
تتخلف الآثار عن أصحابها |
|
حينا ويدركها الفناء فتتبع |
يريد أن الآثار ، وهي البنيان ، تبقى بعد أربابها لتدل على تمكنهم وقوتهم وسطوتهم ثم ينالها بعدهم ما نالهم من الفناء وأن الخراب سيدركها فتذهب الآثار كما ذهب المؤثرون لها فهذه هي عادة الدنيا بأهلها ، وهذا هو المعهود من تصاريفها ، ويحسن بنا أن نورد لك نخبة مختارة من هذه القصيدة جريا على شرطنا في هذا الكتاب :
الحزن يقلق والتجمل يردع |
|
والدمع بينهما عصيّ طيّع |
يتنازعان دموع عيد مسهّد |
|
هذا يجيء بها وهذا يرجع |
النوم بعد أبي شجاع نافر |
|
والليل معي والكواكب ظلّع |
قال ابن جني «لو كان الليل والكواكب مما يؤثر فيهما حزن لأثر فيهما موته» وقال الخطيب : «إنما أراد أن الليل طويل لفقده فالليل معي والكواكب ظلع ما تسير» وقال الواحدي «النوم بعده لا يألف العين