المتنبي والاتساع :
وعلى كل حال تبدو هذه الآية والاتساع فيها مما يدق على الأفهام ، ولكنها دقة لازمة تنطوي على الكثير من المعاني المتصيّدة من الكلام. وقد رمق المتنبي سماءها فكثيرا ما كان يجنح الى هذا الضرب من البلاغة فيدق كلامه. فمن اتساعه قوله :
لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت |
|
لها المنايا الى أرواحنا سبلا |
فظاهر الكلام يوحي بالبداهة الأولى أن «لها» جار ومجرور متعلقان بوجدت ، ولكن فيه تعدّي فعل الفعل الظاهر الى ضميره المتصل ، وذلك ممتنع ، فيجب أن يقدر صفة في الأصل لـ «سبلا» فلما تقدم عليه صار حالا ، كما أن قوله : «الى أرواحنا» ، كذلك إذ المعنى : سبلا مسلوكة الى أرواحنا. ولك في «لها» وجه غريب ، وهو أن تقدر «لها» جمعا للهاة ، كحصى وحصاة ، وتكون «المنايا» مضافة إليها ، ويكون إثبات اللهوات للمنايا استعارة ، شبهت بشيء يبتلع الناس ، ويكون أقام اللها مقام الأفواه لمجاورة اللهوات للنعم ، فاللهاة بالفتح هي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.
ومن ذلك قوله في الغزل.
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها |
|
في ليلة فأرت ليالي أربعا |
واستقبلت قمر السماء بوجهها |
|
فأرتني القمرين في وقت معا |
فليس المعنى كما يظنه الناس من أنه رأى قمرين في وقت واحد القمر ووجهها ، وإنما التحقيق أنها لما استقبلت قمر السماء ارتسم خياله في وجهها فرآهما في وقت واحد ، كما تقابل الأشكال المرآة ، فتنطبع