بيان مكان المقدّر
القياس أن يقدر الشىء فى مكانه الأصلى ، لئلا يخالف الأصل من وجهين : الحذف ، ووضع الشىء فى غير محله.
فيجب أن يقدر المفسر فى نحو «زيدا رأيته» مقدما عليه ، وجوز البيانيون تقديره مؤخّرا عنه ، وقالوا : لأنه يفيد الاختصاص حينئذ ، وليس كما توهموا ، وإنما يرتكب ذلك عند تعذر الأصل ، أو عند اقتضاء أمر معنوى لذلك.
فالأول نحو «أيّهم رأيته» إذ لا يعمل فى الاستفهام ما قبله ، ونحو (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) فيمن نصب ، إذ لا يلى «أمّا» فعل ، وكنا قدّمنا فى نحو «فى الدار زيد» أن متعلق الظرف يقدر مؤخرا عن زيد ؛ لأنه فى الحقيقة الخبر ، وأصل الخبر أن يتأخر عن المبتدأ ، ثم ظهر لنا أنه يحتمل تقديره مقدما لمعارضة أصل آخر ، وهو أنه عامل فى الظرف ، وأصل العامل أن يتقدم على المعمول ، اللهم إلا أن يقدر المتعلق فعلا فيجب التأخير ، لأن الخبر الفعلى لا يتقدم على المبتدأ فى مثل هذا ، وإذا قلت «إنّ خلفك زيدا» وجب تأخير المتعلق ، فعلا كان أو اسما ، لأن مرفوع إنّ لا يسبق منصوبها وإذا قلت «كان خلفك زيد» جاز الوجهان ، ولو قدرته فعلا ، لأن خبر كان يتقدم مع كونه فعلا على الصحيح ، إذ لا تلتبس الجملة الاسمية بالفعلية.
والثانى نحو متعلق باء البسملة الشريفة ، فإن الزمخشرى قدّره مؤخّرا عنها ، لأن قريشا كانت تقول : باسم اللات والعزّى نفعل كذا ، فيؤخرون أفعالهم عن ذكر ما اتخذوه معبودا لهم تفخيما لشأنه بالتقديم ، فوجب على الموحّد أن يعتقد ذلك فى اسم الله تعالى فإنه الحقيق بذلك ، ثم اعترض بـ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وأجاب بأنها أول سورة أنزلت ، فكان تقديم الأمر بالقراءة فيها أهمّ ، وأجاب عنه السكاكى بتقديرها متعلقة باقرأ الثانى. واعترضه بعض العصريين باستلزامه الفصل بين المؤكد وتأكيده بمعمول المؤكد. وهذا سهو منه ، إذ لا توكيد هنا ، بل أمر أولا بإيجاد القراءة ، وثانيا بقراءة مقيدة ، ونظيره (الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ)