المقدمة العاشرة
في أن كلام الله تعالى قديم أولا
ذكر قوم من أئمة الأمة أن كلام الله تعالى قديم بعد أن عنوا بكلامه هذه الحروف المنتظمة المسموعة أما أن كلامه تعالى هو هذه الحروف فلقوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦]. ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف. وأما أنها قديمة فلأن الكلام صفة الله تعالى ، ومن المحال قيام الحادث بالقديم. وأيضا كلّ حادث متغيّر والتغير على ذات الله تعالى وصفاته محال. وزعم قوم أن الكلام المؤلف من الحروف والأصوات يمتنع أن يكون قديما بالبديهة ؛ وكيف لا وإنها أصوات تحدث قارئها يئا بعد شيء فلو قلنا : إنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى ، وحالّة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد. وجمع قوم بين المذهبين فقالوا : للشيء وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في العبارة ، ووجود في الكتابة. فللقرآن وجود عيني وهو القائم بذات الله تعالى ، وأنه قديم لا محالة لا يتطرق إليه شيء من سمات النقص ؛ ووجود ذهني كالحافظ للقرآن ، ووجود في العبارة وهو على لسان القارئ ؛ ووجود كتابي وهو المثبت في المصاحف. ولا ريب أن القرآن من حيثيات هذه الوجودات حادث بل القرآن إنما يطلق على المحفوظ والمتلو والمكتوب بالمجاز من حيث إنها دالة على الكلام القائم بذات الله تعالى.
واعلم أنه لا برهان على أن كل صوت فإنه يقوم بجسم ولا على أن كلّ حرف فإنما يقدر عليه ذو جارحة بل لعلّ في ذلك الشاهد فقط. فالكلام للقديم كمال قديم نطق وسمع وبصر ولا آلة ولا جارحة كما أنّه إدراك وعلم من غير ما قوى وعضو ، ومن لم يدركه كما ينبغي لم يدرك إدراكه كما ينبغي فلا يلومنّ إلا نفسه. كلامه كتاب ، وكتابه صواب ، وقوله فصل ، وحكمه عدل ، ونوره ظهور ، ووجوده شهود ، وعيانه بيان ، والكفر بما سواه إيمان (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦ و ٢٧].