عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن ، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم ، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين وذكر الرحمن الرحيم مرة في التسمية ومرة أخرى في السورة دليل على أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأوصاف ، ومع ذلك عقبها بقوله «مالك يوم الدين» كيلا يغتروا بها. ونظيره (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) [غافر : ٣].
السادسة : الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملا في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك ، وإما لكونه محسنا إليك ، وإما رجاء وطمعا في المستقبل ، وإما خوفا ورهبة ، فكأنه سبحانه يقول : إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله ، وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين ، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمن الرحيم ، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين.
الثامن : في فوائد قوله «إياك نعبد».
الأولى : لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحدا سواك والحاكم فيه الذوق السليم. واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر ، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى. وذلك أن للعبد أحوالا ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فقد كان معدوما فأوجده (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩] (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] وكان جاهلا فعلمه (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٨] ثم أسمعه وأبصره وأعقله (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [الملك : ٢٣] فهو إله بهذه المعاني. وأما الحاضر فحاجاته كثيرة ، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة ، فهو رب رحمن رحيم من هذه الوجوه. وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية ، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه ، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو. وأيضا ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالما قادرا جوادا غنيا حكيما إلى غير ذلك من الصفات الكمالية ، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين ، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه ، وأيضا العبودية ذلة ومهانة ، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ. ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى ، فعبوديته أولى ، وأيضا كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير ، والفقير مشغول بحاجة نفسه