وأيا ما كان الأمر ، فإن حكم داود ـ وكذا سليمان ، عليهماالسلام ، إنما يمثل فترة الرخاء الوحيدة التي قدّر للشعوب العبرانية أن تعرفها على مرّ الدهور ، وهي تقوم على محالفة وثيقة الأواصر مع مدينة «صور» الفينيقية التي يلوح أن ملكها «حيرام» كان رجلا قد أوتى نصيبا كبيرا من الذكاء والقدرة على المغامرة ، وكان يبغي أن يكفل للتجار في البحر الأحمر طريقا آمنا عبر منطقة التلال العبرانية ، وكان الأصل في التجارة الفينيقية أن تذهب إلى البحر الأحمر عن طريق مصر ، بيد أن مصر كانت في تلك الفترة تمر بحالة من الفوضى ، هذا وقد أنشأ حيرام أوثق العلاقات مع داود وسليمان عليهماالسلام ، وقد أنشئت بمساعدة حيرام أسوار أورشليم وقصرها ومعبدها ، وفي مقابل ذلك بني حيرام سفنه على البحر الأحمر وسيّرها فيه ، وأخذ سيل جسيم من التجارة يتدفق خلال أورشليم نحو الشمال والجنوب (١) ، بخاصة وأن داود عليهالسلام قد سيطر تماما على طرق لقوافل القادمة من بلاد العرب الجنوبية والتي كانت تمر في مملكته عند النهاية الشمالية لخليج العقبة على الجانب الشرقي لوادي عربة ، وحتى غوطة دمشق ، ثم ترتبط بالطرق المؤدية إلى شمال سورية فآسيا الصغرى ، وتلك التي كانت تمر بالصحراء الغربية إلى «ميزوباتاميا» ، مما كان له أكبر الأثر في حالة دولة داود الاقتصادية ، بل إن هناك من يذهب إلى أن حروب داود إنما كانت لهذا الغرض ، على الرغم من أن المصادر المتبقية من عهده لا تعطي أهمية لذلك (٢) ، وهذا ما نرفضه تماما ، ذلك أن داود ، وإن كان ملك اليهود القدير ، فهو قبل ذلك وبعده نبيّ الله ورسوله ، وما كان الأنبياء أبدا يحاربون من أجل أسباب اقتصادية ، وإنما كانت حروبهم كلها جهادا في سبيل الله ونشر كلمة «لا إله إلا الله».
__________________
(١) H.G.Wells ,Ashort History of the World ,p. ٧٦.
(٢) O.Eissfeldt ,Op ـ cit ,p. ٥٨٣.