جميع الفصائل والأنواع بلا استثناء ، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان ، تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث ، جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة ، ونسوا الحادث الأول ، حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس ، فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم عليهالسلام ، ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة ، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها ، ولم يتكرر حادث عيسى ، لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله ، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره ، وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة ، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) ، ونظرا لغرابة الحادث وضخامته ، فقد عزّ على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته وأن تدرك الحكمة في إبرازه ، فجعلت تضفي على عيسى بن مريم عليهالسلام ، صفات الألوهية ، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير ، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب ، وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا نتقيد ، تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد (١) ، بينما تدنت آراء أخرى إلى الحضيض ، فاتهمت الطاهرة البتول بما هي منه براء.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه من البشارات التي جاءت في الإنجيل عن سيدنا محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم قول المسيح عليهالسلام : «ذاك يمجدني» (٢) ، والقرآن الكريم ، كما رأينا من قبل ، حافل بآيات الدفاع عن السيد المسيح وأمه الطاهرة البتول ، ودفع الشبهات عنه بالحجة البالغة ، والاعتراف به عبدا لله تعالى ، ورسولا إلى بني إسرائيل ، وقد أيده الله تعالى بالإنجيل والروح القدس ، ومن البدهي أنه ليس هناك من تمجيد ، أرفع ، ولا
__________________
(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٤ ـ ٢٣٠٥.
(٢) إنجيل يوحنا ١٦ / ١٤.