فإن قيل : كيف جاز أن يعذّب جلد لم يعصه قلنا : إنّ المعاصي والألم واقع على نفس.
الإنسان لا الجلد ، لأن الجلود إنما تألم بالأرواح ، والدليل على من يقصد تعذيب الأبدان لا يعذّب [الجلود] قوله : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (١) ، لم يقل ليذوق العذاب.
وقيل : معناه : يبدّل جلودا هي تلك الجلود المحترقة ، وذلك أنّ غير على ضربين : غير تضاد ، وغير تناف ، وغير تبديل ، فغير تضاد مثل قولك : للصّائغ صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره فيكسره ويصوغ لك خاتما ، فالخاتم المصوغ هو الأول ولكن الصياغة تغيّرت والفضّة واحد.
وهذا كعهدك بأخ لك صحيحا ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول : فكيف أنت؟ فيقول : أنا على غير ما عهدت ، فهو هو ، ولكن حاله تغيّرت ، ونظير هذا قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) (٢) وهي تلك الأرض بعينها إلّا أنها قد بدّلت جبالها وآكامها وأنهارها وأشجارها ، وأنشد :
فما النّاس بالنّاس الذين عهدتهم |
|
ولا الدّار بالدّار التي كنت أعرف |
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا نصير محمد بن محمد بن مزاحم يقول : سمعت مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول : سمعت جابر بن زيد يقول : سمعت وكيع بن الجراح يقول : سمعت إسرائيل يقول : سمعت الشعبي يقول : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : ألا ترى ما صنعت عائشة ذمّت دهرها وذلك [أنها] أنشدت بيتي لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم |
|
وبقيت في خلف كجلد الأجرب |
يتلذّذون مجانة ومذلّة |
|
ويعاب قائلهم وإن لم يشغب (٣) |
فقالت : رحم الله لبيد وكيف لو أدرك زماننا هذا.
فقال له ابن عباس : لئن ذمّت [عائشة] دهرها لقد ذمت عاد دهرها ، وذلك إنه وجد في خزانة عاد بعد ما هلكت سهم كأطول ما يكون من رماحا عليه مكتوب :
وليس لي أحناطي (٤) بذي اللوى |
|
لوى الرمل من قبل النفوس (٥) معاد |
بلاد بها كنا ونحن من أهلها |
|
إذ الناس ناس (٦) والبلاد بلاد (٧) |
__________________
(١) سورة النساء : ٥٦.
(٢) سورة إبراهيم : ٤٨.
(٣) تفسير الطبري : ٩ / ١٤٠ ، وتفسير القرطبي : ٥ / ٢٥٥ ، ولسان العرب : ٩ / ٨٤.
(٤) كذا في المخطوط وفي المعجم : ألا هل إلى أبيات شمخ بذي اللوى.
(٥) في المعجم : الممات.
(٦) في المعجم : إذ الأهل أهل.
(٧) معجم البلدان للحموي : ٣ / ٣٦٢.