خالَهْ ، وتقولُ يا أَبَتاهْ كما تقولُ يا خالتَاهُ ، قالَ : وإنّما يلزمون هذه الهاءَ في النِّداءِ إِذا أَضَفْتَ إلى نَفْسِك خاصة ، كأنها (١) جَعَلُوها عِوَضاً من حذْفِ الياءِ ، قال : وأَرادُوا أَنْ يُخِلُّوا بالاسْمِ حينَ اجْتَمَعَ فيه حَذْف النِّداءِ ، وأنَّهم لا يَكادُونَ يقُولُونَ : يا أَباهُ ، وصَارَ هذا مُحْتَملاً عنْدَهم لِمَا دَخَلَ النِّداءَ مِن الحَذْفِ والتَّغْييرِ ، فأَرَادُوا أَن يُعَوِّضوا هذين الحَرْفَيْن كما يَقولُونَ أَيْنُق ، لمَّا حَذَفُوا العَيْن جَعَلوا الياءَ عِوَضاً ، فلمَّا أَلْحَقُوا الهاءَ صَّيرُوها بمنْزِلَةِ الهاءِ التي [تلزم] الاسْمَ في كلِّ مَوْضِع ، واخْتَصّ النِّداء بذلِكَ لكَثْرتِه في كَلامِهم كما اخْتصَّ بيا أَيُّها الرَّجُل.
وذَهَبَ أَبو عُثْمان المازِنيُّ في قِراءَةِ مَنْ قَرَأَ يا أَبَهَ ، بفتْحِ الهاءِ إلى أَنَّه أَرادَ يا أَبَتاهُ فحذَفَ الألِفَ ، وقَوْلُه أَنْشَدَه يَعْقوبُ :
تقولُ ابْنَتي لمَّا رأَتْ وَشْكَ رِحْلَتي |
|
كأَنَّك فِينا يا أَباةَ غَريبُ (٢) |
أَرادَ : أَبَتاهُ ، فقدَّمَ الأَلِفَ وأَخَّر التاءَ ، ذَكَرَه ابنُ سِيدَه والجَوْهرِيُّ.
وقالَ ابنُ بَرِّي : الصَّحِيحُ أَنَّه ردَّ لامَ الكَلِمَة إِليها لضَرُورَةِ الشِّعْرِ.
وقالوا : لابَ لَكَ ، يُريدونَ لا أَبَ ، لَكَ ، فَحَذَفَوا الهَمْزَةَ البَتَّةَ ، ونَظيرُهُ قَوْلَهم : وَيْلُمِّه ، يريدون : وَيْلَ أُمِّه.
وقالوا : لا أَبا لَكَ.
قالَ أَبو علي : فيه تَقْديرانِ مُخْتلِفانِ لمعْنَيَيْن مُخْتلِفَيْن ، وذلِكَ أَنَّ ثَباتَ الأَلِفِ في أَبَا مِن أَبَا لَكَ دَلِيلُ الإضافَةِ ، فهذا وَجْهٌ ، ووَجْهٌ آخَرُ أَنَّ ثَباتَ اللامِ وعَمَل لا في هذا الاسْم يُوجِبُ التَّنْكِيرَ والفَصْلَ ، فثَباتُ الألِفِ دَليلُ الإضافَةِ والتَّعْريفِ ، ووُجودُ اللامِ ، دَليلُ الفَصْل والتَّنْكير وهذان كما تَراهُما مُتَدافِعَانِ.
ورُبَّما قالوا : لا أَباكَ ، لأنَّ اللَّامَ كالمُقْحمةِ ؛ ورُبَّما حَذَفُوا الألفَ أَيْضاً فقالوا لا أَبَكَ ، وهذه نَقَلَها الصَّاغانيُّ عن المبرِّدِ. وقالوا أَيْضاً : لا أَبَ لَكَ ؛ وكُلُّ ذلِكَ دُعاءٌ في المَعْنَى لا مَحالَةَ ، وفي اللَّفْظِ خَبَرٌ أَي أَنتَ عنْدِي ممَّنْ تستحقُّ أَن يُدْعى عليه بفَقْدِ أَبيهِ. ويُؤَكّد عندك خُروجُ هذا الكَلام مَخْرَج المَثَل كُثْرتُه فِي الشِّعْرِ ، وأَنَّه يقالُ لمن له أَبٌ ولمن لا أَبَ له ، لأنَّه إِذا كانَ لا أَبَ له لم يَجُزْ أَن يُدْعَى عليه بما هو فيه لا مَحالَةَ ، أَلا تَرى أنَّك لا تقولُ للفَقِيرِ أَفْقَرَه الله ، فكما لا تقولُ لمَنْ لا أَبَ له : أَفْقَدَ اللهُ أَباكَ ، كَذلِكَ تَعْلم أنَّ قوْلَهم هذا لمَنْ لا أَبَ له لا حَقِيقَة لمعْناهُ مُطابِقَة للَفْظِه ، وإِنَّما هي خارِجَةٌ مَخْرَج المَثَلِ على ما فَسَّرَه أَبو عليٍّ ، ومنه قَوْلُ جريرٍ :
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيِّ لا أَبا لَكُمُ |
|
لا يَلْقَيَنَّكُمْ فِي سَوْءَةٍ عُمَرُ (٣) |
فهذا أَقْوى دَليلٍ على أنَّ هذا القَوْلَ مَثَلٌ لا حَقِيقَة له ، أَلا تَرى أنَّه لا يَجوزُ أنْ يكونَ للتَّيْم كلِّها أَبٌ واحِدٌ ، ولكنَّكم كُلُّكُمْ أَهْلُ الدُّعاءِ عليه والإِغْلاظ له ؛ وشاهِدُ لا أَباكَ ، قَوْلُ أَبِي حَيَّة النُّميْري :
أَبِالْمَوْتِ الذي لا بُدَّ أَنِي |
|
مُلاقٍ لا أَباكِ تُخَوِّفِيني؟ (٤) |
وأَنْشَدَ المبرِّدُ في الكامِلِ :
وقد ماتَ شَمَّاخٌ وماتَ مُزَرِّدُ |
|
وأَيُّ كَرِيمٌ لا أَبَاكِ مُخَلَّدُ؟ (٥) |
وشاهِدُ لا أَبا لَكَ قَوْلُ الأَجْدَع :
فإِن أَثْقَفْ عُمَيراً لا أُقِلْهُ |
|
وإِن أَثْقَفْ أَباه فلا أَبا لَهْ! (٦) |
__________________
(١) الصواب : «كأنهم» كما في اللسان.
(٢) اللسان والصحاح.
(٣) ديوانه ١ / ٢١٢ واللسان والكامل للمبرد ٣ / ١١٤٠ وانظر تخريجه فيه ، وبالأصل «ويلفينكم» بالفاء.
(٤) اللسان والكامل للمبرد ٢ / ٦٧٠ و ٣ / ١١٤٠ وهو من شواهد المقتضب ٤ / ٣٧٥ والصحاح واللسان.
(٥) اللسان والكامل للمبرد ٢ / ٦٧٠ و ٣ / ١١٤٠ «يخلد» وصواب إنشاده :
وأَي عزيز لا أبا لك يمنع
والبيت من عينية مسكين الدارمي ، خزانة الأدب ٢ / ١١٦.
(٦) اللسان.