فبَيْنا نحن نَرْقُبُه أَتانا |
|
مُعَلّقُ وَفْضةٍ وزِنادُ راعِي (١) |
أَرادَ بَيْنَ نحنُ نَرْقُبُه أَتانا ، فإن قِيلَ : لِمَ أَضافَ الظَّرْفَ الذي هو بَيْن ، وقد علِمْنا أنَّ هذا الظَّرْفَ لا يُضافُ مِنَ الأسْماءِ إلَّا لمَا يدلُّ على أكْثَر مِنَ الواحِدِ أَو ما عُطِف عليه غيرُه بالواوِ دُونَ سائِرِ حُروف العَطْف ، وقولُه نحنُ نَرْقُبُه جمْلَةٌ ، والجمْلَةُ لا يُذْهَب لها بَعْدَ هذا الظَّرْفِ؟
فالجَوابُ : أنَّ ههنا واسِطَةٌ مَحْذُوفةٌ وتقْديرُ الكَلامِ بَيْنَ أَوْقاتٍ نحنُ نَرْقُبُه أَتانا ، أي أَتَانا بَيْنَ أَوقاتِ رَقْبَتِنا إيَّاه ، والجُمَلُ ممَّا يُضافُ إليها أَسْماءُ الزَّمانِ كقوْلِكَ : أَتَيْتك زَمَنَ الحجاجُ أَميرٌ ، وأَوانَ الخَلِيفةُ عبدُ الملِكِ ، ثم إنَّه حذف المضافُ الذي هو أَوْقاتٌ ووَليَ اللَّفْظ (٢) الذي كانَ مُضافاً إلى المَحْذوفِ الجُمْلة التي أُقِيمت مُقامَ المُضاف إليها كقوْلِه تعالَى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٣) ؛ أي أَهْلَ القَرْيةِ ، وبَينا وبَيْنما من حُروفِ الابْتِداءِ وليْسَتِ الألفُ بصلةٍ ، وبَيْنما أَصْله بَيْنَ زِيْدَتْ عليه ما والمَعْنى واحِدٌ.
قالَ شيْخُنا ، رحِمَه اللهُ تعالى : وقوْلُه : مِن حُروفِ الابْتِداءِ ، إن أَرادَ بالحُروفِ الكَلِماتَ كما هو مِن إطْلاقات الحُرُوف ، فظاهِرٌ ، وأَمَّا إن أرادَ أَنَّهما صارا حَرْفَيْن في مُقابلةِ الاسْم والفِعْلِ فلا قائِل به ، بل هما باقِيانِ على ظَرْفِيَّتِهما والإشْباعِ وهما لا يُخْرِجانِ بَيْنَ عن الاسْميَّةِ ، وإنَّما يقْطَعانه عن الإضافَةِ كما عُرِف في العربيَّة ؛ ا ه.
وقالَ غيرُهُ : هما ظَرْفا زَمانٍ بمعْنَى المُفاجَأة ، ويُضافَان إلى جُمْلةٍ مِن فِعْل وفاعِلٍ ومُبْتدأ وخَبَر فيَحْتاجَانِ إلى جَوابٍ يتمُّ به المعْنَى.
قالَ الجوْهرِيُّ : وكانَ الأصْمَعيُّ يَخْفِضُ بعدَ بَيْنا إذا صَلُحَ في موْضِعِه (٤) بَيْنَ كقَوْلِه ، أي أَبي ذُؤَيْب الهُذَليّ كان ينْشدُه هكذا بالكَسْر :
بَيْنا تَعَنَّفِه الكُماةَ ورَوْغِه |
|
يوماً أُتِيحَ له جَرِيءٌ سَلْفَعُ (٥) |
كذا في الصِّحاحِ تَعَنُّفه بالفاءِ (٦) ، والذي في نسخِ الدِّيوان تَعَنُّقه بالقافِ ؛ أرادَ بينَ تَعَنُّقه فزادَ الألِفَ إشْباعاً ؛ نَقَلَه عبدُ القادِرِ البَغْدادِيُّ.
وقالَ السّكَّريُّ ، رحِمَه اللهُ تعالى : كانَ الأصْمعيُّ يقولُ بَيْنا الألِف زائِدَة إنَّما أَرادَ بينَ تَعَنُّقه وبينَ رَوَغَانِه أي بَيْنا يقتلُ ويُراوغُ إذ يختل. وغيرُه يَرْفَعُ ما بَعْدَها على الابْتِداءِ والخَبَرِ ؛ نَقَلَه السُّكَّريُّ.
قالَ ابنُ بَرِّي : ومثْلُه في جوازِ الرَّفْع والخفْضِ قوْلُ الرّاجزِ (٧) :
كُنْ كيفَ شِئْتَ فقَصْرُك الموتُ |
|
لا مَزْحَلٌ عنه ولا فَوْتُ |
بَيْنا غِنَى بيتٍ وبَهْجَتِه |
|
زالَ الغِنَى وتَقَوَّضَ البيتُ (٨) |
قالَ : وقد تأْتي إذْ في جوابِ بَيْنا ؛ قالَ حُمَيْد الأرْقط :
بَيْنا الفَتَى يَخْبِطُ في غَيْساتِه |
|
إذِ انْتَمَى الدَّهْرُ إلى عِقْراتِه (٩) |
قالَ : وهو دَليلٌ على فَسَادِ قوْلِ مَنْ قالَ إنَّ إذْ لا تكونُ إلَّا في جوابِ بَيْنما بزِيادَةِ ما ، وممَّا يدلُّ على فَسادِ هذا القَوْل أَنَّه جاءَ بَيْنما وليسَ في جوابِها إذ كقوْلِ ابنِ هَرْمة :
بَيْنما نحنُ بالبَلاكِثِ فالْقا |
|
عِ سِراعاً والعِيسُ تَهْوي هُوِيَّا |
__________________
(١) اللسان.
(٢) في اللسان : الظرف.
(٣) يوسف ، الآية ٨٢.
(٤) في القاموس : صَلُح موضعُهُ.
(٥) من شواهد القاموس ، والبيت في ديوان الهذليين في شعر أبي ذؤيب ١ / ١٨ برواية : بينا تعنقه ، واللسان والصحاح.
(٦) الذي في الصحاح : «تعنقه» بالقاف كرواية الديوان.
(٧) في اللسان : قول الآخر.
(٨) البيتان في اللسان بدون نسبة ، والثاني في التهذيب ونسبه للخليل بن أحمد.
(٩) اللسان وفيه : «عفراته».