الآخرة وانصرافه عن الدنيا ، وذلك يشتد بشغل الجوارح في الطاعات وكفها عن المعاصي ؛ فإن بين الجوارح والقلب علاقة شديدة يتأثر كل منهما بالآخر ، كما إذا حصل للجوارح آفة سرى أثرها إلى القلب فاضطرب ، وإذا تألم القلب لخوف مثلا سرى أثره إلى الجوارح فارتعدت. والقلب هو الأمير والمتبوع ، والجوارح كالرعايا والأتباع.
والمقصود من أعمالها : حصول ثمرة للقلب ، فلا يظن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض ، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكّد صفة التواضع في القلب ؛ فإن من يجد في نفسه تواضعا إذا استعان بأعضائه وصوّرها بصورة المتواضع تأكّد بذلك تواضعه ، وأما من يسجد غافلا عن التواضع وهو مشغول القلب بأغراض الدنيا فلا يصل من وضع الجبهة على الأرض أثر إلى قلبه ، بل سجوده كعدمه ؛ نظرا إلى الغرض المطلوب منه. فكانت النيّة روح العمل وثمرته والمقصد الأصلي من التكليف به ، فكانت أفضل. وهذا قريب بما تقدّم من كونها من أعمال القلب.
ومنها أن النيّة ليست مجرّد قولك عند الصلاة أو الصوم أو التدريس : اصلّي أو أصوم أو ادرّس قربة إلى الله ، ملاحظا معاني هذه الألفاظ بخاطرك ، ومتصورّا بقلبك. هيهات إن هذا تحريك لسان وأحاديث نفس ، وإنّما النيّة المعتبرة انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها إمّا عاجلا وإمّا آجلا. وهذا الانبعاث والميل إذا لم يكن حاصلا لها لا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرّد النطق بتلك الألفاظ ، وتصوّر تلك المعاني ، وما ذلك إلّا كقول الشبعان : أشتهي الطعام وأميل إليه ، قاصدا حصول الميل والاشتهاء. وكقول الفارغ : أعشق فلان واحبه وأنقاد إليه واطيعه. بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وإقباله عليه إلّا بتحصيل الأسباب الموجبة لذلك الميل والانبعاث واجتناب