يعني تعلّم الزمان منه السخاء وسرت سخاوته إلى الزمان فأخرجه من العدم إلى الوجود ، ولو لا سخاؤه الذي استفاد منه لبخل به على الدنيا واستبقاه لنفسه ، كذا ذكره ابن جني (١). وقال ابن فورة (٢) : هذا تأويل فاسد لأنّ سخاءه غير موجود قبل وجوده فلا يوصف بالعدوى إلى الزمان وإنّما المراد سخا الزمان بالممدوح عليّ وكان بخيلا به لا يجود به على أحد ومستبقيا لنفسه ، فلما أعداه سخاءه أسعدني بضمي إليه وهدايتي له. فالمصراع الثاني مأخوذ من المصراع الثاني لأبي تمام كذا في المطول والمختصر. لكن مصراع أبي تمام أجود سبكا من مصراع أبي الطيّب لأنّ قوله ولقد يكون لم يصب محله إذ المعنى به هاهنا لقد كان أي على المضي. ومثال الثالث قول أبي تمام :
لو حار مرتاد المنية لم تجد |
|
إلا الفراق على النفوس دليلا |
الارتياد الطلب أي المنية الطالبة للنفوس لو تحيّرت في الطريق إلى إهلاكها ولم يمكنها التوصّل إليها لم يكن لها دليل عليها إلاّ الفراق فأخذ منه أبو الطيب فقال :
لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت |
|
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا |
وإن أخذ المعنى وحده سمّي ذلك الأخذ سلخا وإلماما ، من ألمّ بالمنزل إذا نزل به ، فكأنّه نزل من اللفظ إلى المعنى. وهو أيضا ثلاثة أقسام كذلك ، أي مثل أقسام الإغارة والمسخ ، لأنّ الثاني إمّا أبلغ من الأول أو دونه أو مثله. مثال الأول قول أبي تمام :
هو الصنع إن يعجل فخير وإن يرث |
|
فللرّيث في بعض المواضع أنفع (٣) |
ضمير هو عائد إلى حاضر في الذهن وهو مبتدأ وخبره الصنع ، والشرطية ابتداء الكلام ، يعني أنّ الشيء المعهود هو الإحسان فإن يعجل فهو خير وإن يبطأ فالبطء في بعض الأوقات وبعض المحال يكون أنفع من العجلة. وقول أبي الطيب :
ومن الخير بطء سيبك عني |
|
أسرع السّحب في المسير الجهام |
السيب العطاء والسحب جمع سحاب والجهام هو السحاب الذي لا ماء فيه. يقول وتأخير عطائك عني خير في حقي لأنّه يدل على كثرته كالسحب إنما يسرع منها ما كان جهاما لا ماء فيه ، وما كان فيه الماء يكون بطيئا. ففي بيت أبي الطيب زيادة بيان لاشتماله على ضرب المثل فكان أبلغ. ومثال الثاني قول البحتري :
وإذا تألّق في النديّ كلامه |
|
المصقول خلت لسانه من عضبه |
يعني إذا لمع في المجلس كلامه المنقّح حسبت لسانه سيفه القاطع. وقول أبي الطيب :
كأنّ ألسنهم في النطق قد جعلت |
|
على رماحهم في الطعن خرصانا |
جمع خرص بمعنى سنان الرماح يعني أنّ ألسنتهم عند النطق في المضاء والنفاذ تشابه أسنّتهم عند الطعن ، فكأنّ ألسنتهم جعلت أسنة رماحهم. فبيت البحتري أبلغ لما في لفظي تألق والمصقول من الاستعارة التخييلية ، فإنّ التألّق والصقال من لوازم السيف ، وتشبيه كلامه
__________________
(١) تقدمت ترجمته.
(٢) فورجة (م ، ع). هو محمد بن حمد بن محمد بن عبد الله بن محمود بن فورجة البروجردي ولد في نهاوند عام ٣٨٠ هـ / ٩٩٠ م. وتوفي بالري نحو ٤٥٥ هـ / نحو ١٠٦٣ م. عالم بالادب. له شعر وبعض المؤلفات. الاعلام ٦ / ١٠٩ ، بغية الوعاة ٣٩ ، فوات الوفيات ٢ / ١٩٨ ، ارشاد الأريب ٧ / ٤.
(٣) نفع (م).