ما عَرَفُوا) (١) الآية. ومنها التعظيم والتهويل نحو (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) (٢) (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٣) فإن قلت هذا النوع أحد أقسام التأكيد الصناعي فإنّ منها التوكيد بتكرار اللفظ فلا يحسن عدّه نوعا مستقلا. قلت هو يجامعه ويفارقه ويزيد عليه وينقص عنه فصار أصلا برأسه ، فإنّه قد يكون التأكيد تكرارا وقد لا يكون تكرارا ، وقد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيدا للتأكيد معنى ؛ ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين فإنّ التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده نحو (اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ) (٤) فالآية من باب التكرير لا التأكيد الصناعي. ومن التكرير نوع يسمّى بالترديد ، وهو ما كان لتعدّد المتعلّق بأن يكون المكرر ثانيا متعلّقا بغير ما تعلّق به الأول كقوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥) الآية ومنه قوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٦) لتعلّق كلّ واحدة بما قبلها.
قال في عروس الأفراح فإن قلت : إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظ بكل أريد به غير ما أريد بالآخر؟ قلت :إذا قلنا العبرة لعموم اللفظ فكلّ واحد أريد به ما أريد بالآخر ، ولكن كرّر ليكون نصا فيما يليه وظاهرا في غيره. فإن قلت يلزم التأكيد؟ قلت : والأمر كذلك ، ولا يرد عليه أنّ التأكيد لا يزداد على ثلاثة لأنّ ذلك في التأكيد الذي هو تابع ، أمّا ذكر الشيء في مقامات متعدّدة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع. ومن أمثلة ما يظن تكرارا وليس منه (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (٧) ثم قال (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (٨) ثم قال (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) (٩) فإنّ المراد بكل واحد من هذه الأذكار غير المراد بالآخر. فالأول الذكر في المزدلفة عند الوقوف بقزح وقوله (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (١٠) إشارة إلى تكرّره ثانيا. وثالثا ويحتمل أن يراد به طواف الإفاضة منه بدليل تعقيبه بقوله (فَإِذا قَضَيْتُمْ) (١١) والذكر الثالث إشارة إلى رمي جمرة العقبة والذكر الأخير لرمي أيام التشريق. ومن ذلك تكرير الأمثال الواقعة في القرآن كقوله (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) (١٢) وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة بالمستوقد نارا ثم ضربه بأصحاب الصيّب ومن ذلك تكرير القصص الواقعة في القرآن كقصة آدم وموسى ونوح وغيرهم من الأنبياء عليهمالسلام. وفي تكرير القصص فوائد. منها أنّ في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله ، أو إبدال كلمة بأخرى لنكتة وهي عادة البلغاء. ومنها أنّ في إبراز الكلام
__________________
(١) البقرة / ٨٩.
(٢) الحاقة / ١ ـ ٢.
(٣) الواقعة / ٢٧.
(٤) الحشر / ١٨.
(٥) النور / ٣٥.
(٦) المرسلات / ١٥.
(٧) البقرة / ١٩٨.
(٨) البقرة / ٢٠٠.
(٩) البقرة / ٢٠٣.
(١٠) البقرة / ١٩٨.
(١١) البقرة / ٢٠٠.
(١٢) فاطر / ١٩ ـ ٢٢.