مُنذ ذلك التاريخ ـ ولمَّا يصل الدور بعد إلى عمر ، وإنْ يكن له في كرسيِّ الخلافة الصدر والأُذن والعين وإشارة البَنان ـ وجَّه الخليفة أبو بكر ، في عُتمة الليل ، مُعاوية بن أبي سفيان ليزرعه في غوطة الشام ، ولمَّا مضى الخليفة العجوز إلى حِضن ربِّه ، تناول عمر الزرع بالحيطة والعُهدة ، فهو وإنْ زرع في الليل ، فإنَّ الصبح سينشره حاكماً مُقتدراً على الشام ، وحَمص ، وحماه ، واللاذقيَّة ، وحتَّى على صيدا وصور وسهول بيسان ، سيكون الحاكم المُلمَّ والمُقتدر على أيَّام الخليفة الثالث عثمان الذي وصل الليل بالنهار ، وهو يعتني بالزرع الذي ستغصُّ به البَيادر ، فيُشبع الأُمَّة التي هي بنو أُميَّة ، وتموت جوعاً تلك الأُمَّة الأُخرى التي هي طالبيَّة بني هاشم!!!
لقد كان مُعاوية أقدر مَن مشى الدروب في عُتمات الليل ، وكان يُجرِّب إخفاء بصمات خُطواته ، ولكنَّ الدروب لا تَقبل ـ كثيراً ـ بتشويه البصمات ، فهي مِن نصيبها تحمُّل الوطء ، والاحتفاظ بالبصمات التي هي تسجيلها الوحيد بإحصاء المارِّين ، ومُطالبتهم بما يكون عليهم مِن ضرائب المُكوث أو المُرور ، إنْ يَطل مكوث أو ينخطف مرور ، مِن هذا القبيل كان للثورة الصغيرة أنْ تمشي نحو عثمان وتُجندله عن كرسيِّ الخلافة ، وكان لمُعاوية أنْ يُحاول لَمْلَمة بصَماتها ، ولفهَّا بقميص القتيل ، وتحويلها ثأراً يُطالب به الإمام عليَّاً ليأخذ منه ديَّةً عليه ، أمَّا الثورة الرابحة التي كانت أوسع وأكبر مِن سابقتيها : ثورة الجَمل ، وثورة النهروان ، فإنَّه حاول أنْ يمتصَّ بصماتها ويلفَّها بورقة مِن أوراق المِصحف ، ليدرأ عنه ويلاً هددته به معارك صِفِّين ، إمَّا سقوط عليٍّ قتيلاً تحت مدية ابن ملجم ، فإنَّه جاء بعد خلوِّ الساحة مِن ثلاثة : أوَّلهم طلحة ، وثانيهم الزبير ، وثالثهم إمام ما طاله إلاَّ اليوم مشي الليالي الطويلة ، مُنذ أنْ مشاها عمر بقدمي أبي بكر ، وتخطَّاها عثمان بولاية مقصوفة. أمَّا البصمات فإنَّها توحي كلُّها الآن بأنَّه وحده ـ مُعاوية ـ هو الذي أصبح قدر الخلافة.
بعد هذا التخطيط الطويل ، وبعد لملمة كلِّ هذه البصمات وتجييرها في خدمته ، أصبح مُعاوية سيِّد الساحة ، والمُتحكِّم الأقدر بالخُطوط الطويلة التي تربط