الشام بالكوفة والبصرة والمدينة ومَكَّة واليمن ، وأخيراً مصر في المُقلب الآخر التي لم تأنف كثيراً مِن استحالتها بقرة حَلوبا بين يدي عمرو بن العاص!
أمَّا الرجال الكبار الذين عاونوه في عمليَّات البصم والتجيير ، فإنَّهم لم يكونوا أقلَّ منه دهاءً ، وأطول نفساً في عمليَّة امتطاء الليل مِن أجل الحصول على كلِّ مَغنم فيه ثروة ، وفيه جاه ، وفيه تحكُّم برقاب الناس ، وفيه ـ بنوعٍ خاصٍّ ـ قضاء تامٌّ على بني طالب ، إنَّهم المعدودون في البطانة المُخمليَّة : منهم عمرو بن عاص ، والمُغيرة بن شعبة ، ومروان بن الحَكم ، وزياد الذي كان ابن أبيه ، فأصبح أكيداً أخاه.
ذلك هو التخطيط المُصمَّم مُنذ ثلاثين سنة ، ومَن يَقدر أنْ يقول : إنَّ ليس التخطيط أقوى وأشدَّ فيلق مِن الفيالق التي تمشي إلى حرب؟ بمثل هذا التخطيط قابل مُعاوية بن أبي سفيان الخَطَّ العريض الذي رسمه النبي الكريم بصِفته صاحب الرسالة ، وجامع الأُمَّة ، وموليها حقوقها في الوجود ، ومُتعهِّدها الأوحد في الصيانة والديمومة ، وهي المحسوبة ـ أوَّلاً وأخيراً ـ أُمَّته العربيَّة التي ردَّها مِن غياهب الليل ، وهي التي تتَّصف به الآن في إطارها الجامع.
لقد أدرك الحسن واستوعب كلَّ ما رمى ووصل إليه تحيُّط الجماعة ، التي يُمثِّلها الآن مُعاوية في الشام ، ولقد رأينا كيف أنَّه لمَّح إلى كلِّ ذلك في الجَلسة التي عقدها مع أخيه الحسين ، عشيَّة مقتل أبيهما الإمام ، ولقد صمَّما على مُتابعة ملء الفراغ في الساحة المشحونة بالغبار ، كلُّ ذلك مِن أجل افتداء الأُمَّة ونَشْلها مِمَّا يُهدِّد لحمتها مِن انفراط بدأت القبليَّة تلعب به كمادَّة وحيدة يستنجد بها الآن مُعاوية ، وستكون نجدة كلِّ زعيم آخر يخوض الساحة حتَّى يثبت زعامته فيها.
غير أنَّ التخطيط الذي جعلنا الحسن نلمح خُطورته ، هو الذي يتفرَّد بامتلاك الساحة ، وبالتحكُّم بكلِّ مَفارق دروبها ، وبالإلمام بكلِّ تشعُّباتها ، ومَساربها ، وحناياها ، ومخبآتها. لقد كان كلُّ شيء مُعدَّاً بدرس وتصميم ، لإفشال كلِّ سعي