ولا سَعَةٌ لِغَيْرِ مَن اجْتَمَعَ عَلَيه قَلْبُهُ. وفي هذِهِ مَنْ أَرادَ مِنْ صاحِبِه ما يَعْهُدُهُ منْهُ من المُؤانَسَةِ والمُذَاكَرَة فَقَدْ ظَلَمَهُ.
وأَمَّا قَبْضُ التَّفْرِقَةِ فَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ تَفَرَّق قَلْبُه عَنِ الله وتَشَتَّت في الشِّعاب والأَوْدِيَة ، فَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ ما يَجِدُه من القَبْضِ الَّذِي يَنْتَهِي معه المَوْتُ. وثَمَّ قَبْضٌ آخَرُ خَصَّ الله به ضَنَائنَ عِبَادِهِ وخَوَاصَّهم ، وهُمْ ثَلاثُ فِرَقٍ. وتَحْقِيقُ هذَا المَحَلِّ في كُتُبِ التَّصَوُّفِ ، وفي هذا القَدْر كفَايَةٌ.
[قربض] : القُرُنْبُضَة ، بالضَّمِّ ، أَهْمَلَه الجَوْهَرِيّ. وقال ابنُ دُرَيْدٍ : هي القَصِيرَةُ ، هكَذَا نَقَلَهُ صاحبُ اللِّسَانِ والصّاغَانِيّ في كِتَابَيْه ، وكَأَنَّه يَعْنِي من النِّسَاءِ ، كالقُنْبُضَةِ الّذِي أَوْرَدَه اللَّيْثُ والجوْهَرِيّ وغَيْرُهُمَا ، كما سَيَأْتِي.
[قرض] : قَرَضَهُ يَقْرِضُهُ قَرْضاً : قَطَعَهُ ، هذا هو الأَصْلُ فيه ، ثُمّ اسْتُعْمِلَ في قَطْع الفَأْرِ والسَّلَفِ والسَّيْرِ (١) ، والشَّعْرِ ، والمُجَازَاة ، ويُقال : قَرَضَهُ قَرْضاً جَازَاهُ كقَارَضَهُ مُقَارَضَةً.
ومن الأَخِير قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ : «إِنْ قارَضْتَ الناسَ قَارَضُوكَ ، وإِنْ تَرَكْتَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوكَ ، وإِنْ هَرَبْتَ مِنْهُمْ أَدْرَكُوكَ» وقد سَبَقَ ذِكْرُ الحَدِيثِ في «ع ر ض» ، يَقُولُ : إِنْ فَعَلْتَ بِهم سُوءاً فَعَلُوا بِكَ مِثْلَهُ ، وإِنْ تَرَكْتَهُمْ لَمْ تَسْلَمْ مِنْهُم ولم يَدَعُوكَ. وإِنْ سَبَبْتَهُمْ (٢) سَبُّوكَ ، ونِلْتَ مِنْهُم ونَالُوا مِنْك.
ذَهَبَ به إِلَى القَوْلِ فِيهِمْ والطَّعْن عَلَيْهِم ، وهذا من القَطْع.
وقَرَضَ الشِّعْرَ قَرْضاً : قالَهُ خاصَّةً ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ ، وهو قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ. قال شَيْخُنا : ومَنْ قالَ : إِنَّ قَرْضَ الشِّعْر من قَرَضَ الشَّيْءَ ، إِذا قَطَعَهُ ، كالسَّيِّد قُدِّسَ سِرُّه في حَوَاشِيهِ على شَرْح «المِفْتَاح» ، فَقَدْ أَبْعَدَ ، كما أَوْضَحْتُه في حاشِيَة المُخْتَصَرِ. انْتَهَى. قُلْتُ : لَمْ يُبْعِد السَّيِّدُ فِيمَا قالَهُ فَإِنَّ القَرْضَ أَصْلُهُ في القَطْعِ ، ثم تُفرَّعُ عليه المَعَانِي كُلُّهَا بحَسَبِ المَرَاتِبِ ، ويَشْهَدُ لِذلِكَ قَوْلُ الصَّاغَانِيّ في العُبَابِ ، والتَّرْكِيبُ يَدُلُّ على القَطْعِ ، وكذلِكَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ : القَرْضُ في أَشْيَاءَ ، فَذَكَرَ فِيهَا قَرْضَ الفَأْر وسَيْر البِلادِ وقَرْضَ الشِّعْر والسَّلف والمُجَازاةِ فإِذا شُبِّه الشِّعْرُ بالثّوبِ ، وجُعِلَ الشاعِرُ كَأَنَّهُ يَقْرِضُهُ ، أَي يَقْطَعُهُ ويُفَضِّلُه ويُجَزِّئهُ ، فأَيّ بُعْدٍ فيه؟ ، فَتَأَمَّلْ ، قال شَيخُنَا ثُمَّ ظاهِرُ المُصَنِّفِ كالصّحاح وغَيْرِهِ أَنّ قَرْضَ الشّعر هو قَوْلُهُ. والَّذِي ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الأَدَبِ ، كحَازِمٍ وغَيْرِهِ أَنَّ قَرْضَ الشِّعْرِ هو نَقْدُه ومَعْرِفَةُ جَيِّدِه مِنْ رَدِيئهِ قَوْلاً ونَظَراً. قُلْتُ : هذا الَّذِي ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عن أَئمَّةِ الأَدَبِ إِنَّمَا هُوَ في التَّقْرِيضِ دُونَ القَرْضِ ، كما سَيَأْتِي ، فَتَأَمَّلْ.
ومِنَ المَجَاز : جَاءَنَا وقَدْ قَرَضَ رِبَاطَه ، ذَكَرَ الجَوْهَرِيُّ هذَا اللَّفْظَ عَقِيبَ قَوْلِهِ : قَرَضْتُ الشَّيْءَ أَقْرِضُهُ بالكَسْرِ قَرْضاً : قَطعْتُه ، ثم قالَ ؛ يُقَالُ : جَاءَ فُلانٌ وقد قَرَضَ رِبَاطَهُ والفَأْرَةُ تَقْرِضُ الثَّوْبَ ، هذا سِيَاقُ كَلامِه فَهذَا يَدُلّ على أَنَّه أَرادَ بِقَوْلِهِ قَرَضَ رِبَاطَه تَبْيِينَ (٣) القَرْضِ بمَعْنَى القَطْعِ وتَأْكِيدَه ، ولَيْسَ كَذلِكَ ، بَلْ مَعْنَاهُ كما قَالَه ابنُ الأَعْرابِيّ ، أَيْ مَاتَ والرِّباطُ : رِباطُ القَلْبِ ، ومَنْ قُطِعَ رِباطُ قَلْبِه فَقَدْ هَلَك. أَو مَعْنَاهُ : إِذا جَاءَ مَجْهُوداً وقَدْ أَشْرَفَ عَلَى المَوْتِ.
وهو قَوْلُ أَبِي زَيْدٍ ، كما نَقَلَهُ الأَزْهَرِيّ. وقال غَيْرُهُ : أَي جَاءَ في شِدَّةِ العَطَشِ والجُوعِ.
وقَرَضَ في سَيْرِه يَقْرِضُ قَرْضاً : عَدَل يَمْنَةً ويَسْرَةً وقال الجَوْهَرِيُّ : ويَقُولُ الرَّجُلُ لِصاحِبهِ : هلْ مَررْت بِمَكَانِ كذا وكَذَا ، فيَقُولُ المسْؤُول : قَرَضْتُهُ ذاتَ اليمِينِ لَيْلاً. يُقَالُ :
قَرضَ المَكانَ يَقْرِضُهُ قَرْضاً : عَدَلَ عنه وتَنَكَّبَهُ ، وأَنْشَدَ لِذِي الرُّمَّة :
إِلى ظُعُنٍ يقْرِضْنَ أَجْوازَ مُشْرِفٍ |
|
شِمالاً وعنْ أَيْمَانِهِنَّ الفَوَارِسُ (٤) |
ومُشْرِفٌ والفَوارِسُ مَوْضِعان. يقُول : نَظَرْتُ إِلى ظُعُنٍ يَجُزْنَ بَيْنَ هذَيْنِ المَوْضِعَيْنِ. انْتَهَى.
وقال الفَرّاء : العَرَبُ تَقُولُ : قَرضْتُهُ ذَاتَ اليَمَينِ ، وقَرَضْتُه ذَاتَ الشِّمالِ ، وقُبُلاً ، ودُبُراً ، أَي كُنْت بِحِذائِه من كُلِّ ناحِيَةٍ.
وقَرَضَ الرَّجُلُ : مَاتَ ، هكَذا نَقَلَهُ الجوْهَرِيّ ، كقَرِضَ ، بالكَسْرِ ، وهذِه عن ابنِ الأَعْرَابِيّ. وقد جَمعَ بيْنَهُما الصَّاغَانِيُّ في العُبَاب ، ونَبَّه عليْه في التَّكْمِلَة أَيْضاً.
__________________
(١) الأصل «السفر» والمثبت مقتبس من عبارة اللسان ، وقول أبي عبيد وسير البلاد ، كما سيأتي قريباً.
(٢) في النهاية والتهذيب : «ساببتهم».
(٣) عن التكملة وبالأصل «تبين».
(٤) رواية عجزه في التهذيب :
يميناً وعن أيسارهن الفوارس