كَذا في اللِّسَان والصّحاح. قُلْتُ : وهو قَوْلُ ضَبٍّ ، ويُرْوَى :
كَيْفَ تَرَاهَا بالفَجَاجِ تَنْهَضُ |
|
بالغَيْل لَيْلاً والحُدَاةُ تَقْبِضُ |
تَقْبِضُ ، أَيْ تَسُوقُ سَوْقاً سَرِيعاً.
وأَنْشَدَ ابنُ بَرّيّ لِأَبِي مُحَمَّدٍ الفَقْعَسِيّ :
هَلْ لَكِ والعَارِضُ مِنْكِ عائِضُ |
|
في هَجْمَةٍ يُغْدِرُ مِنْهَا القَابِضُ |
وقد تَقَدَّم الكَلامُ عليه في «ع ر ض» وفي «ع و ض».
قال الأَزْهَرِيُّ : وإِنَّمَا سُمِّيَ السَّوْقُ قَبْضاً ، لِأَنَّ السائقَ لِلْإِبِلِ يَقْبِضُهَا ، أَي يَجْمَعُهَا إِذا أَرادَ سَوْقَهَا ، فإِذا انْتَشَرَت عَلَيه تَعَذَّر سَوْقُهَا. قال : وقَبَضَ الْإِبِلَ يَقْبِضُهَا قَبْضاً : سَاقَهَا سَوْقاً عَنِيفاً.
والعَيْرُ يَقْبِضُ عَانَتَهُ : يَشُلُّهَا ، وعَيْرٌ قَبَّاضَةٌ : شَلاَّلٌ ، وكَذلِكَ : حادٍ قَبَّاضَةٌ ، وقَبَّاضٌ. قال رُؤْبَةُ :
أَلَّفَ شَتَّى لَيْسَ بالرَّاعِي الحَمِقْ |
|
قَبَّاضَةٌ بَيْنَ العَنِيفِ واللَّبِقْ |
قال ابنُ سِيدَه : دَخَلَتِ الهَاءُ في قَبَّاضَةٍ للمُبَالَغَةِ ، وقد انْقَبَضَ بها.
والقَبْضُ : النَّزْوُ وقال عَبْدَةُ بنُ الطَّبِيبِ العَبْشَمِيُّ يَصِفُ نَاقَتَهُ :
تَخْدِي بِه قُدُماً طَوْراً وتَرْجِعُهُ |
|
فَحَدُّه من وِلَافِ القَبْضِ مَفْلُول |
ويُرْوَى بالصَّاد المُهْمَلَةِ ، وقد تَقدَّم.
وقال الأَصْمَعِيُّ : يُقَالُ : ما أَدْرِي أَيُّ الْقَبِيضِ هُوَ ، كَقَوْلِكَ : ما أَدْرِي أَيُّ الطَّمْشِ (١) هُوَ. ورُبَّمَا تَكَلَّمُوا به بغَيْرِ حَرْفِ النَّفْيِ قال الرّاعِي :
أَمْسَتْ أُمَيَّةُ للإِسْلامِ حائِطَةً |
|
ولِلْقَبِيضِ رُعَاةً أَمْرُهَا الرَّشَدُ (٢) |
وذَكَرَ اللَّيْثُ هُنَا القَبِيضَةُ ، كَسَفِينَة ، من النِّسَاءِ : القَصيرة. قال الأَزْهَرِيّ : هو تَصْحِيف. صَوابُهُ القُنْبُضَةُ ، بالنُّون ، وسَيَأْتِي للمُصَنِّف. وذَكَرَهُ الجَوْهَرِيّ هُنَا على أَنَّ النُّونَ زَائدَةٌ.
والقَبِيضَةُ كسَفِينَةٍ : القَبْضَةُ ، وبه قُرِئَ في الشَّاذّ فَقَبَضْتُ قَبِيضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ (٣) نَقَله المُصَنِّفُ في البَصَائِر. واقْتَبَضَ مِنْ أَثَرِهِ قَبْضَةً ، كقَبَضَ ، والصَّادُ لُغَةٌ فيه.
وأَنْشَدَ في البَصَائِرِ لأَبِي الجَهْمِ الجَعْفَرِيّ :
قَالَتْ لَهُ واقْتَبَضَتْ من أَثَرِهْ |
|
يَا رَبُّ صاحِبْ شَيْخَنَا في سَفَرِهْ |
قِيلَ لَهُ كَيْفَ اقْتَبَضَتْ من أَثَرِه؟ قال : أَخَذْت قَبْضَةً من أَثَرِه في الأَرْضِ [فقَبَّلتها] (٤).
ويُسْتَعَار القَبْضُ للتَّصَرُّفِ في الشَّيْءِ وإِنْ لَمْ يكُنْ [فيه] ملاحَظَة اليَدِ والكَفِّ ، نَحْوُ : قَبَضْتُ الدَّارَ والأَرْضَ ، أَيْ حُزْتُهَا.
تَذْنِيب : القَبْضُ عند المُحَقِّقِين من الصُّوفِيَّة نَوْعان : قَبْضٌ في الأَحْوالِ وقَبْضٌ في الْحَقَائِقِ. فالقَبْضُ في الأَحْوَالِ أَمْرٌ يَطْرُقُ القَلْبَ ويَمْنَعُه عن الانْبِسَاطِ والفَرَحِ ، وهو نَوْعَان أَيْضاً : أَحَدُهُما ما يُعْرَفُ سَبَبُهُ كتَذَكُّرِ ذَنْبٍ أَو تَفْرِيطٍ. والثَّانِي : ما لا يُعْرَف سَبَبُهُ بَلْ يَهْجُم على القَلْبِ هُجوماً لا يقْدرُ على التَّخَلُّص منه ، وهذا هو القَبْضُ المُشَارُ إِلَيْهِ بِأَلْسِنَةِ القَوْمِ ، وضِدُّهُ البَسْطُ. فالقَبْضُ والبَسْطُ حَالَتَانِ لِلْقَلْبِ ، لا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْهُمَا. ومِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ القَبْضَ أَقْسَاماً غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا : قَبْضَ تَأْدِيبٍ ، وقَبْضَ تَهْذِيبٍ ، وقَبْضَ جَمْعٍ ، وقَبْضَ تَفْرِيقٍ : فقَبْضُ التَّأْدِيب يَكُونُ عُقُوبَةً على غَفْلَةٍ ، وقَبْضُ التَّهْذِيبِ يَكُونُ إِعْدَاداً لِبَسْطٍ عَظِيمٍ يَأْتي بَعْدَهُ. فيَكُونُ الْقَبْضُ قَبْلَه كالمُقَدّمة له. وقد جَرَت سُنَّةُ اللهِ تَعالَى في الأُمُورِ النَّافِعَةِ المَحْبُوبَةِ يُدْخَلُ إِلَيْهَا من أَبْوَابِ أَضْدادِهَا.
وأَمّا قَبْضُ الجَمْع فهو ما يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ حالَةَ جَمْعِيتِهِ عَلَى اللهِ من انْقِبَاضِهِ عن العَالَمَ وما فِيهِ ، فلا يَبْقَى فِيه فَضْلٌ
__________________
(١) في التهذيب : «أي الخَلْق» بدل «أي الطمش».
(٢) ديوانه ص ٧١ وانظر تخريجه فيه. والبيت من قصيدة يمدح عبد الله بن يزيد بن معاوية.
(٣) سورة طه الآية ٩٦.
(٤) زيادة عن الأساس «قبص». وقد وردت العبارة والشطران فيها كلها بالصاد بدل الضاد ، في مادة «قبص».