وهؤُلاء الأَنْبِيَاءُ كُلُّهم كانُوا يَسُكُنُون بلَادَ عَرَبَة ، فكان شُعَيْبٌ وقومُه بأَرْضِ مَدْيَن ، وكان صَالِح وقومُه بأَرْضِ ثَمُودَ ، ينزِلون بناحِيَة الحِجْر ، وكانَ هُودٌ وقومُه عادٌ يَنْزِلُون الأَحْقَافَ مِنَ رِمَال اليَمَن ، وكَانَ إِسمَاعِيلُ بْنُ إِبراهِيمَ والنَّبِيّ المُصْطَفَى صَلَّى الله عليهما من سُكَّان الحَرَم. وكُلّ من سَكَن بلادَ العَرَب وجَزِيرَتَهَا ونَطَق بلِسَان أَهْلِهَا فهم عَرَبٌ ، يَمَنُهم وَمَعَدُّهم.
قال الأَزْهَرِيّ : وَأَقَامَتْ قُرَيْشٌ بِعَرَبَة فتَنَّخَتْ بِهَا ، وانْتَشَرَ سَائِرُ العَرَب في جَزِيرَتها فنُسِبَتِ العَرَبُ كُلُّهم إِلَيْهَا ، لأَنَّ أَبَاهم إِسْمَاعِيل ، صلىاللهعليهوسلم ، بها نَشَأَ ورَبَلَ أَولَادُه فِيهَا فَكَثروا ، فَلَمَّا لم تَحْتَمِلْهم البِلَاد انْتَشَرُوا ، فأَقَامت قُرَيْشٌ بِهَا. ورُوِيَ عن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رضياللهعنه قَال : قُرَيْشٌ هم أَوْسَطُ العَرَب في العَرَب داراً وأَحْسَنُه جِوَاراً ، وأَعْرَبُه أَلْسِنَةً.
وقد تَعَقَّب شَيْخُنَا هَاهُنَا المُؤَلِّفَ بأُمُورٍ : الأَوَّلُ المَعْرُوفُ في أَسْمَاءِ الأَرَضينَ أَنّها تُنْقَل من أَسْمَاءِ سَاكِنيهَا أَو بَانِيها أَو مِن صِفَة فِيهَا أَو غَيْرِ ذلك. وأَما تَسْمِيَةُ النَّاسِ بالأَرْضِ ونَقْلُ اسْمِهَا إِلَى مَنْ سَكَنَهَا أَو نَزَلَهَا دون نِسْبَة فَغَيْرُ معروفٍ وإِنْ وَقَع في بَعْضِ الأَفْرَاد كَمَذْحِج ، عَلَى رأْي.
والثَّانِي أَنَّ قولَهم سُمِّيَت العَرَبُ باسْمِها لنُزُولِهِم بِهَا صَرِيحٌ بأَنَّها كانَتْ مُسمَّاةً بذلك قَبْل وُجُودِ العَرب وَحُلُولِهم الحِجَازَ وما وَالاه مِن جَزِيرَة العَرَب ، والمعروفُ في أَراضِي العَرَبِ أَنَّهم هُمُ الَّذِين سَمَّوْهَا ولَقَّبُوا بُلدانَها ومِيَاهَا وقُرَاهَا وأَمْصَارَهَا وبَادِيَتَهَا وحَاضِرَتَها بِسَبَبٍ مِنَ الأَسْباب ، كَمَا هُوَ الأَكْثَر ، وقد يَرْتَجِلُون الأَسْمَاءَ ولا يَنْظُرُون لِسَبَب.
والثَّالِثُ أَنَّ ما ذُكِر يَقْتَضِي أَنَّ العَرَب إِنَّما سُمِّيَت بِذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِهَا فِي هَذِه القَرْيَة والمَعْرُوفُ تَسْمِيَتُهُم بِذلِك في الكُتُب السَّالِفَة ، كالتَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ وغَيْرِهِما ، فكَيْفَ يُقَالُ إِنهُم إِنَّمَا سُمُّوا بَعْدَ نُزُولهم هَذِه القَرْيَة.
والرَّابِعُ أَنَّهُم ذُكِرُوا مَع بَقَايَا أَنْوَاع الخَلْق ، كالفُرْسِ والرُّومِ والتُّرْك وغَيْرِهِم ، ولم يَقُل فيهم أَحَدٌ إِنهم سُمُّوا بأَرْضٍ أَو غَيْرِهَا ، بَلْ سُمُّوا ارتِجَالاً ، لا لِصَفَةٍ أَو هَيْئة أَو غَيْرِ ذلِك ، فالعَرَب كذلك.
والخَامِسُ أَنَّ المعروفَ في المَنْقُولِ أَنْ يَبْقَى على نَقْلِه على التَّسْمِيَة ، وإِذا غُيِّر إِنَّمَا يُغَيَّر تَغْيِيراً جُزْئِيّاً للتَّمْيِيزِ بَيْنَ المَنْقُول والمَنْقُولِ عَنْه فِي الجُمْلَة ، والمَنْقُولُ هنا أَوْسَعُ دائِرَةً مِن المنقول عَنْه من جِهَاتٍ ظَاهِرَة ، ككَوْنِ أَصْلِ المَنْقُول عَنْه سَرَبَةً بالهَاءِ ، ولا يُقَال ذلِكَ في المَنْقُولِ ، وكَكَوْنِهِم تَصَرَّفُوا فيه بلُغَات لا تُعْرَف ولا تُسْمَع في المَنْقُولِ ، عنه ، فقَالُوا عَرَبٌ ، مُحَرَّكَة ، وعُرْب ، بالضَّم ، وعُرُبٌ ، بضَمَّتَيْن ، وأَعْرَابٌ وأَعْرَابِيٌّ ، وغَيْرُ ذلك.
والسَّادِسُ أَنَّ العَرَب أَنْوَاعٌ وأَجْنَاسٌ وشُعُوبٌ وقَبَائِلُ مُتَفَرّقُونَ في الأَرْضِ ، لَا يَكَادُ يَأْتِي عليهم الحَصْرُ ، ولا يُتَصَوَّر سُكْنَاهم كُلِّهم في هَذِه القَرْيَة أَو حُلُولُهم فِيهَا ، فكَانَ الأَوْلَى أَن يُقْتَصَرَ بالتَّسْمِية على مَنْ سَكَنَها دُونَ غَيْرِه.
ثم أَجَابَ بِمَا حَاصِلُه : أَنَّ إِطْلَاقَ العَرَب عَلَى الجِيلِ المَعْرُوف لا إِشْكَالَ أَنَّه قَدِيم كغيره من أَسْمَاءِ بَاقِي أَجْنَاسِ الناس وأَنْوَاعهم ، وَهُو اسْمٌ شَامِل لِجَمِيع القَبَائِل والشُّعُوبِ ، ثم إِنَّهم لَمَّا تَفَرَّقُوا في الأَرَضِين وتَنَوَّعت لَهُم أَلقابٌ وأَسماءٌ خَاصّة باخْتِلاف ما عرضت من الآباءِ والأُمهات والحالات التي اخْتَصَّت بِهَا كقُرَيْشٍ مَثَلاً وثَقيفٍ ورَبِيعَةَ ومُضَر وكِنَانة ونِزَار وخُزَاعة وقُضَاعَة وفَزَارة ولِحْيَان وشَيْبَان وهَمْدان وغَسَّان وغَطَفَان وسَلْمَان وتَمِيم وكَلْب ونُمير وإِيَاد وَوَداعَة وبَجِيلَة وأَسْلَم ويَسْلَم وهُذَيْل ومُزَيْنَة وجُهَيْنة وعَامِلَة وبَاهِلَة وخَثْعَم وطَيِّئ والأَزْد وتَغْلِب وقَيْس ومَذْحِج وأَسد وعَنْبس وعَنْس وَعَنَزَة ونَهْد وبَكْر وذُؤَيْب وذُبْيَان وكِنْدَة ولَحمْ وجُذَام وضَبَّة وضِنَّة وسَدُوس والسَّكُون وَتَيْم وأَحْمَسَ وغَيْرِ ذلك ، فأَوْجَب ذلِك تمييز كُلِّ قَبِيلَة باسْمِهَا الخَاصّ ، وتُنُوسِيَ الاسْمُ الّذِي هو العَرَب ، ولم يَبْقَ له تَدَاوُلٌ بينهم ولا تَعَارُفٌ ، واستَغْنَت كُلُّ قَبِيلَة باسْمِهَا الخَاصّ ، مع تَفَرُّق في القَبَائل وَتَبَاعُد الشُّعُوب في الأَرْضِينَ. ثم لَمَّا نَزَلَت العَرَبُ بِهذِه القَرْيَة ، في قَوْل ، أَو قُرَيْشٌ بالخُصُوص ، في قَوْل المُصَنّف ، رَاجَعُوا الاسْمَ القَدِيم وتَذَاكَروه وتَسَمَّوْا بِه ، رُجُوعاً للأَصْل ، فمَنْ عَلَّل التَّسْمِيَة بما نَقَلَه البَكْرِيُّ وَغَيْرُه نَظَر إِلَى الوَضْع الأَوّل المُوَافِق للنَّظَرِ من أَسْماءِ أَجْنَاسِ النَّاسِ. ومَنْ عَلَّل بِمَا ذَكَرَه المُصَنِّف وغيرُه مِنْ نُزُول عَربَة نَظَرَ إِلى ما أَشَرْنَا إِليه.