ويَدُلُّ على أَنّه رُجُوعٌ للأَصْل وتَذَكُّرٌ بَعْدَ النِّسْيَان أَنَّهُم جَرَّدُوهُ من الهَاءِ المَوْجُودَةِ في اسم القَرْيَة وذَكّرُوه على أَصْلِه المَوْضُوعِ القَدِيم. هَذَا نَصُّ جَوَابه. وقد عَرَضَه على شَيْخَيْهِ سَيِّدِنا الإِمام مُحَمَّدِ بْنِ الشَّاذِلِيِّ وَسَيِّدِنَا الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ المسنَّاوِيّ تَغَمَّدَهُما الله تعالى بغُفْرَانِه فارْتضَيَاه وسَلَّما له بالقَبُول وأَجْرَياه مُجْرَى الرَّأْي المَقْبُول وأَيَّدَه الثَّانِي بقَوْله : إِنَّه ينظُر إِلى ما اسْتَنْبَطُوه في الجَوَاب عن بَعْضِ الأَدلَّة التي تَتَعَارض أَحْيَاناً فتَتَخَرَّج على النّسبِيَّات والحَقِيقِيَّات.
وذكر شيخُنَا بعد ذلك أَوَّلِيَّةَ بناءِ المَسْجِدِ الحَرَام والمَسْجِدِ الأَقْصَى لإِبْرَاهِيمَ وسليمان عَلَيْهِمَا السَّلَامَ مَع أَنَّ الأَوَّلَ مِنْ بناءِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مع المَلَائِكَةِ. والثَّاني من بِناءِ آدَم عَلَيْه السَّلَامُ ، فَقَالُوا اتُنُوسِي بِنَاءُ هؤُلاءِ بمُرُور الأَزْمَان ، وتَقَادُم العَهْد فَصَار مَنْسُوباً لسَيِّدِنا إِبْرَاهِيم وَسَيِّدِنا سُلَيْمَان ، فَهُوَ الأَوْلَى بهذَا الاعْتِبَار ، إِلَى آخِرِ ما ذكر.
قلت : وقد يُقَالُ إِنَّ رَبِيعَةَ ومُضَرَ وكِنَانَة ونِزَاراً وخُزَاعَة وقَيْساً وضَبَّة وغَيْرَهم مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلام مِمّن ذكر آنِفا. ولم يَذْكُر من العَرب المستَعْربة وهم سكان هذه الجزيرة ومجاور وسَاحَات مَكَّةَ وأَوْدِيَتِها ، وقد تَوَارَثُوها من العَرَب العَارِبة المُتَقَدِّم ذِكْرُهم وإِن تَشَتَّت منهم في غَيْرِها فَقَلِيل من كَثِير ، كيف تُنُوسِي بَيْنَهم هَذا الاسْم ثم تُذُوكِرُوا به فِيمَا بَعْد ، وهَذا لا يَكُون إِلا إِذَا فُرِض وقُدِّر أَنه لم يَبْق بِتِهامَةَ من أَولادِ إِسْمَاعِيل أَحَدٌ وهَذَا لَا قَائِل به. وقوله : ثم لَمَّا نَزَلَت العربُ ، ليتَ شِعْري أَيّ العَرَب يَعْنِي؟ أَمِن العَرَب العَارِبَة فإِنهم انْقَرَضُوا بِهَا ولم يُفَارِقُوها أَو من المُسْتَعْرِبَة وَهُم أَولادُ إِسْمَايَلِ ، واخْتَصَّ مِنْهم قُرَيش فَصَار القَوْلَانِ قَوْلاً وَاحِدا ..
ثم الجَوَاب عما أَورده. أَمَّا عن الأَوَّل فَلِمَ لا يَكُون هَذَا من جُمْلَة الأَفْرَاد التي ذكرها كمَذْحِج وغَيْرِه ، ومنْهَا نَاعِط وشَبَام قَبِيلَتَان من حِمْيَر ؛ سُمِّيتَا باسْمِ جَبَلَيْن نَزَلَاهُمَا ، وكَذَلك بنو شُكْر بالضَّم سُمُّوا باسْمِ المَوْضِع ، وفي مُعْجَمِ البَكْرِيّ : سُمي جُدَّة بن جرم بْنِ رَيّان (١) بْنِ حُلْوان بْنِ الحَافِ (٢) بْنِ قُضَاعَة بالموضع المعروف من مكة لولادته بِهَا ، وهذا قد نَقَلَه شيخُنَا في شَرْحِ الكِتَاب في ج د د كما سيأْتي.
وفي معجم ياقوت : مَلَكَانُ بْنُ عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ أُدٍّ ؛ سُمِّي باسْم الوَادِي وهو مَلِك (٣) من أَوْدِيَة مَكَّة لوِلَادَتِهِ فيه.
وقرأْت في إِتحافِ البَشَر للنَّاشِريّ ما نَصُّه : فَرَسَانُ مُحَرَّكَة : جَبَلٌ بالشَّام سُمِّيَ به عِمْرَانْ بْنُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِب ، لاجتيازه فيه ، وبه يُعْرَف ولدُه. ورأَيْت في تاريخ ابن خِلِّكَان مَا نَصّه : كاتم والتُّكرور : جِنْسَانِ من الأُمم سُمِّيا باسْم أَرْضِهِما ، ومثلُه كَثِير يعرفه المُمَارِس في هَذا الفن.
وعند التأَمل فيما ذكرنا يَنْحَلُّ الإيرادُ الثَّانِي أَيضاً.
وأَما عن الثَّالِث فنقول : ما المَرادُ بالعَرَب الذينَ تَذْكرُهم؟ أَهُمُ القَبَائِلُ الموجودةُ بالكثرة التي تَفَرَّعت قريباً ، أَم هُمْ أَولادُ إِرَم بْنِ سَام البطونُ المُتَقَدِّمَة بعد الطُّوفَان؟ فإِن كان الأَوّل فإِنهم ما نَزَلُوا عَرَبَة ولا سَكَنُوهَا ، وإِن كَان الثَّانِي فلا رَيْبَ أَنَّ التوراة والإِنْجِيلَ وغَيْرهما من الكُتُب مَا نَزَلَت إِلَّا بَعْدَهم بكَثِير ، وكَان مَعَدُّ بْنُ عَدْنَان في زَمَن سَيِّدِنا مُوسَى عليهالسلام ، كما يَعْرِفُه مَنْ مارس عِلْمَ التَّوَارِيخ والأَنْسَاب. وأَمَّا ما وَرَد في حَدِيثِ المَوْلد من إِطْلَاق لَفْظِ العَرَب قَبْلَ خَلْق السموات والأَرْض فهو إِخْبَار غَيْبِيٌّ بما سَيَكُون ، فهو كَغَيْرِه مِن المُغَيَّبَات.
وأَمَّا عن الرَّابع فإِنه إِذا كَان بعضُ الأَسْماءِ مُرْتَجَلَةً وبَعْضُهَا مَنْقولَةً لَا يُقَالُ فيها : لمَ لم تَكُن مُرْتَجَلات كُلُّها أَو مَنْقُولَاتٍ كُلّهَا حَتَّى يلزم ما ذكر لاختلافِ الأَسْبَاب والأَزمنة.
وأَما عَن الخَامِس فنقول : أَلَيسَ التعريبُ في الكلام هو النَّقْلَ من لِسَان إِلى لِسَان. فالمُعرَّب والمعرَّب مِنْه هو المَنْقُول والمَنْقُولُ مِنْه. وهذا لَفْظ العرَبُون في هذه المادة سيأْتي عن قريب وهو عَجَمِيّ. كيف تَصَرَّفُوا فيه مِن ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ أَعْرَبَ وعَرَّب وعَرْبَن واشتَقُّوا منها أَلفَاظا أُخَر غير ذلك ، كما سيأْتِي ، فيُجْعَل هذَا مِنْ ذَاك. وهذَا لَفْظُ العَجَم تصرفوا فِيهِ كما تَصَرَّفوا في لفظ العَرَب.
وأَما عَنِ السَّادِس فأَنْ يُقَالُ : إِن كان المُرَادُ بعَرَبَة الَّتي
__________________
(١) عن معجم البلدان ، وبالأصل : حرم بن زبان.
(٢) في معجم البلدان : حلوان بن عمران بن الحاف.
(٣) في معجم البلدان : مِلْك بالكسر ثم السكون والكاف.