فيما ذكرناه شرعيين ، لما حكم بهما منكر والشرائع كالزنادقة والدهرية ، فإنهم مع إنكارهم الاديان يحكمون بحسن العدل والاحسان ، ويرتبون عليهما ثناءهم وثوابهم ، ولا يرتابون في قبح الظلم والعدوان ، ولا في ترتيب الذم والقصاص على فعلهما ، ومستندهم في هذا إنما هو العقل لا غير ، فدع عنك قول من يكابر العقل والوجدان ، وينكر ما علمه العقلاء كافة ، ويحكم بخلاف ما تحكم به فطرته التي فطر عليها ، فإن الله سبحانه فطر عباده على إدراك بعض الحقائق بعقولهم كما فطرهم على الادراك بحواسهم ومشاعرهم ، ففطرتهم توجب أن يدركوا بعقولهم حسن العدل ونحوه ، وقبح الظلم ونحوه ، كما يدركون بأذواقهم حلاوة العسل ومرارة العلقم ، ويدركون بمشامهم طيب المسك ونتن الجيف ، ويدركون بملامسهم لين اللين وخشونة الخشن ، ويمييزون بأبصارهم بين المنظرين الحسن والقبيح ، وبأسماعهم بين الصوتين : صوت المزامير وصوت الحمير ، تلك فطرة الله (التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (٧٩٥).
وقد أراد الاشاعرة أن يبالغوا في الايمان بالشرع والاستسلام لحكمه ، فأنكروا حكم العقل ، وقالوا : لا حكم إلا للشرع ، ذهولا منهم عن القاعدة العقلية المطردة ـ وهي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ـ ولم يلتفتوا إلى أنهم قطعوا خط الرجعة بهذا الرأي على انفسهم ، فلا يقوم لهم بعده على ثبوت الشرع دليل ، لان الاستدلال على ذلك بالادلة الشرعية دوري لا تتم به حجة ، ولولا سلطان العقل لكان الاحتجاج بالنقل مصادرة ، بل لولا العقل ما
____________________________________
(٧٩٥) سورة الروم آية : ٣٠.