قال ابنُ جنىٍّ : أصلُهَا بَنَوَةٌ ، وَوَزْنُها فَعَلٌ ، فألحَقَتها التاءُ المبدلةُ مِن لامها بِوَزن حِلْسٍ ، فقالوا : بِنْتٌ ، وليست التاءُ فيها بعلامَةِ تأنيثٍ كما ظَنَّ مَنْ لا خِبْرَةَ لَهُ بهذا الشأن ، وذلك لسكون مَا قَبلَها ، وهذا مَذهبُ سيبويهِ ، وهو الصحيحُ ، وقد نصّ عليه فى باب ما لا ينصرفُ ، فقال : لو سَمَّيتَ بها رجلاً لصرْفتَها معرفةً ، ولو كانت للتأنيثِ لمَا انصرف الاسمُ.
على أن سيبويه قد تسمَّح فى بعض ألفاظِه فى الكتاب ، فقال فى بِنْتٍ : هى علامة تأنيثٍ ، وإنّما ذلك تَجوُّز منه فى اللفظ ؛ لأنّه أرسلَهُ غُفْلاً ، وقد قَيَّدهُ وعَلَّلَهُ فى باب ما لا ينصرفُ ، والأخذ بقوله المعلَّلِ أَقْوَى منَ الأخذ بقوله الغُفْلِ المُرْسَلِ ، ووجْهُ تَجَوُّزه أنَّهُ لمَّا كانتْ التاءُ لا تبدلُ من الواو فيها إلا مع المُؤَنَّث صارَتْ كأنها علامَةُ تأنيثٍ ، وأَعنى بالصيغَة فيها بِناءَهَا على فِعْلٍ ، وأصلُهَا فَعَلٌ بدلالة تكسيرِهم إِيّاه على أفْعَالٍ ، وإبدالُ الواوِ فيها لازمٌ ؛ لأنّه عَمَلٌ اختُصّ بهِ المُؤَنثُ ، ويدلُّ أيضًا على ذلك إقامَتهُم إياهُ مُقامَ العلامة الصريحة ، وتَعَاقُبُهَا فيها على الكلمة الواحدَةِ ، وذلك نحو : ابنَةٍ وبنتٍ فالصيغة فى بِنْتٍ قائِمَةٌ مَقَامَ الهاءِ فى ابَنةٍ فكما أنّ الهاءَ علامةُ تأنيثٍ ، فكذلك صيغةُ بِنْتٍ علامةُ تأنيثها ، وليس بنتٌ مِن ابنَةٍ كَصَعْبٍ مِن صَعْبةٍ ، إنّما نظيرُ صَعْبَةٍ مِن صَعْبٍ ابنةُ مِن ابنٍ ، ولا دِلالة لك فى البُنُوَّةِ على أنّ الذاهبَ من بنتٍ واوٌ ، لكِنْ إبدالُ التاءِ من حرف العلةِ يدل على أَنّهُ منَ الواو ؛ لأنّ إبدالَ التاءِ مِنَ الواوِ أضعَافُ إبدالِهَا منَ الياءِ ، والنسبُ إلى بنتٍ بَنَوِىٌ ، فأَمّا قولُ يُونُسَ : بِنْتِىٌ ، وأُخْتِىٌّ ، فمردودٌ عند سيبويه ، وقد أُنعمَ تَعْلِيلُهُ فى غيرِ مَوضعٍ ، وقوله تعالى : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [هود : ٧٨] كَنَّى ببناتِهِ عن نسائِهم ، ونِسَاءُ أُمَّة كُلِّ نَبِىٍّ بمَنزِلَةِ بناتِه ، وأزوَاجُهُ بمنزلةِ أمهاتهم ، هذا قول الزجّاج. قال سيبويه : وقالوا : ابنَمٌ فزادوا الميمَ ، كما زِيدتْ فى فُسْحُمٍ ودِلقِمٍ ، وكأَنّها فى ابنَمٍ أَمْثَلُ قليلاً ؛ لأنّ الاسمَ محذُوفُ اللامِ ، فكأنها عِوضٌ منها ، وليس فى فُسحُمٍ ونحوِه حَذْفٌ ، فأمّا قول رُؤبة :
بُكَاءَ ثَكْلَى فَقَدَتْ حَميمَا |
|
فَهْىَ تُرَثِّى بأَبَا وابنَامَا(١) |
فإنّما أَرادَ وابنىْ ما ، لكن حَكَى نُدْبَتَها ، واحتمل الجمع بينَ الياءِ والألف هاهُنَا ؛ لأنه أرادَ الحكاية كأنّ النادبَةَ آثَرتْ (وابنا) على (ابنِى) لأَنّ الألفَ هَاهُنَا أَمْتَعُ نَدْبًا وأَمَدُّ لِلصَّوتِ ؛ إذْ فى الألف من ذلك ما ليس فى الياءِ ؛ ولذلك قالَتْ : بأَبَا ولَمْ تقُلُ : بأَبِى ، والحكايَةُ قد
__________________
(١) الرجز لرؤبة فى ملحق ديوانه ص ١٨٥ ، ولسان العرب (بنى) ؛ وتاج العروس (رثا) ، (بنى).