سِيبَوَيْهِ من قَوْلِ الشّاعِرِ :
كَأَنَّك من جِمالِ بَنِى أُقَيشٍ |
|
يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بشَنِ (١) |
أَراد : جَمَلٌ من جِمالِ بنى أُقَيْشٍ. وقال ابنُ جِنِّى : « دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها » مَنْصُوبَةٌ على الحالِ ، معطوفَةٌ على قولِه : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) [الإنسان : ١٣] ، وهذا هو القَوْلُ الذى لا ضرُورَةَ فيهِ ، قالَ : وأما قَوْلُه : « كأَنَّكَ من جِمالِ بَنِى أُقَيْشٍ » البيت فإِنّما جازَ ذلك فى ضَرُورَةِ الشِّعْرِ ، ولو جازَ لَنا أن نَجِدَ « مِنْ » قد جُعِلَتْ فى بعضِ المَواضِعِ اسْمًا لجَعَلْناهَا اسمًا ، ولم نَحْمِل الكَلامَ على حَذْفِ المَوْصُوفِ ، وإقامَةِ الصِّفَةِ مُقامَه ؛ لأَنَّه نوعٌ من الضَّرُورةِ ، وكتابُ اللهِ يَجِلُّ عن ذلِكَ.
فأَمّا قولُ الأَعْشِى :
أَتَنْتَهُونَ ولَنْ يَنْهَى ذَوِى شَطَطٍ |
|
كالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ (٢) |
فلو حَمَلْتَه على إِقامَةِ الصِّفَةِ مُقامَ المَوْصُوفِ لكانَ أَقْبَحَ من تَأَوُّلِ قولِه تَعالَى : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) على حَذْفِ المَوْصُوفِ ؛ لأَنَّ الكافَ فى بَيْتِ الأَعْشَى هى الفاعِلَة فى المَعْنَى ، ودانِيَة فى هذا القول إِنَّما هى مَفْعُولٌ بها ، والمَفْعُولُ قد يكونُ غَيْرَ اسمٍ صَرِيحٍ ، نحو : ظَنَنْتُ زَيْدًا يَقُومُ. والفاعِلُ لا يكونُ إلَّا اسْمًا صَرِيحًا مَحْضًا ، فهم على إِمْحاضِه اسْمًا أشَدُّ مُحافَظَةً من جَمِيعِ الأَسْماءِ ، أَلا تَرَى أَنَّ المُبْتَدأَ قد يقعُ غيرَ اسْمٍ مَحْضٍ ، وهو قوله : « تَسْمَعُ بالمُعَيْدِىِّ خيرٌ من أَنْ تَراهُ » ، فتَسْمَعُ ـ كما تَرَى ـ فِعْلٌ ، وتقديرُه : أَنْ تَسْمَعَ ، فحَذْفُهم أَنْ ورَفْعُهُم تَسْمَعُ يدُلُّ على أَنَّ المُبتدأَ قد يُمْكِنُ أَنْ يكونَ عندَهُم غيرَ اسْمٍ صَريحٍ ، وإِذا جازَ هذا فى المُبْتَدَإِ على قُوَّةِ شَبَهِه بالفاعِلِ ، فهو فى المَفْعُولِ الَّذِى يَبْعُدُ عنهُما أَجْوَزُ ، فمن أَجْلِ ذلِكَ ارْتَفَع الفِعْلُ فى قولِ طَرَفَةَ :
*أَلَا أَيُّهذَا الزَّاجِرِى أَحْضُرُ الوَغَى* (٣)
عندَ كثيرٍ من النّاسِ ؛ لأَنَّه أرادَ أَنْ أَحْضُرَ. وأجازَ سِيبَوَيْهِ فى قولِه : مُرْهُ يَحْفِرُها. أن يكونَ الرَّفْعُ على قوله : أَنْ يَحْفِرَها. فلمّا حُذِفَتْ أَنْ ارْتَفَعَ الفِعْلُ بعدَها ، وقد حَمَلَهُم كثرةُ حَذْفِ أَنْ مع غيرِ الفاعِلِ على أن اسْتجَازُوا ذلك فى غيرِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُه وإِن كانَ ذلك
__________________
(١) البيت للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ١٢٦ ؛ ولسان العرب (وقش) ، (قعع) ، (شنن).
(٢) البيت للأعشى فى ديوانه ص ١٦٣ ؛ ولسان العرب (دنا) ؛ والخصائص (٢ / ٣٨٦).
(٣) صدر بيت لطرفة فى ديوانه ص ٣٢ ؛ ولسان العرب (أنن) ، (دنا). وعجزه : *وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي*.