وهذا حال الإنسان فإن نفسه لا تتعلق بالشيء الفاني من جهة أنه متغير يسرع إليه الزوال ، وإنما يتعلق القلب عليه بما يشاهد فيه من سمة البقاء كيفما كان فينجذب إليه ولا يلوي عنه إلى شيء من تقادير فنائه ، فتراه إذا أقبلت عليه الدنيا اطمأن إليها وأخذ في التمتع بزينتها والانقطاع إليها ، واعتورته أهواؤه وطالت آماله كأنه لا يرى لنفسه فناء ، ولا لما بيده من النعمة زوالا ولا لما ساعدته عليه من الأسباب انقطاعا ، وتراه إذا أدبرت عنه الدنيا أخذه اليأس والقنوط فأنساه كل رجاء للفرج وسجل عليه أنه سيدوم ويدوم عليه الشقاء وسوء الحال.
والسبب في ذلك كله ما أودعه الله في فطرته من التعلق بهذه الزينة الفانية فتنة وامتحانا فإذا أعرض عن ذكر ربه انقطع إلى نفسه والزينة الدنيوية التي بين يديه والأسباب الظاهرية التي أحاطت به وتعلق على حاضر الوضع الذي يشاهده ، ودعته جاذبة الزينات والزخارف أن يجمد عليها ولا يلتفت إلى فنائها وهو القول بالبقاء ، وكلما قرعته قارعة العقل الفطري أن الدهر سيغدر به ، والأسباب ستخذله ، وأمتعة الحياة ستودعه ، وحياته المؤجلة ستبلغ أجلها ، منعه اتباع الأهواء وطول الآمال الإصغاء لها والالتفات إليها.
وهذا شأن أهل الدنيا لا يزالون على تناقض من الرأي يعملون ما يصدقونه بأهوائهم ويكذبونه بعقولهم لكنهم يطمئنون إلى رأي الهوى فيمنعهم عن الالتفات إلى قضاء العقل.
وهذا معنى قولهم بدوام الأسباب الظاهرية وبقاء زينة الحياة الدنيا ولهذا قال فيما حكاه الله : « ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً » ولم يقل : هذه لا تبيد أبدا.
وقوله : « وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً » هو مبني على ما مر من التأبيد في قوله : « ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً » فإنه يورث استبعاد تغير الوضع الحاضر بقيام الساعة ، وكل ما حكاه الله سبحانه من حجج المشركين على نفي المعاد مبني على الاستبعاد كقولهم : « مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ » يس : ٧٨ وقولهم : « أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ » الم السجدة : ١٠.
وقوله : « وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً » مبني على ما تقدم من دعوى كرامة النفس واستحقاق الخير ، ويورث ذلك في الإنسان رجاء كاذبا بكل