لبثنا يوم وقال بعض آخر : لبثنا بعض يوم.
لا يلتفت إليه أما أولا فلأن هذا المعنى لا يتلقى من سياق مثل قوله : « لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » البتة وقد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى : « قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ : لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » البقرة : ٢٥٩.
وأما ثانيا فلأن قولهم : « لَبِثْنا يَوْماً » إنما أخذوه عما استدلوا به من الأمور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكم والتهوس والمجازفة والأمور الخارجية التي يستدل بها الإنسان وخاصة من نام ثم انتبه من شمس وظل ونور وظلمة ونحو ذلك لا تشخص مقدار اليوم التام من غير زيادة ونقيصة سواء في ذلك الترديد والتفصيل فالمراد باليوم على أي حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة وهو استعمال شائع.
وقوله تعالى : « قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ » أي قال بعض آخر منهم ردا على القائلين : « لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » : « رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ » ولو لم يكن ردا لقالوا ربنا أعلم بما لبثنا.
وبذلك يظهر أن إحالة العلم إلى الله تعالى في قولهم : « رَبُّكُمْ أَعْلَمُ » ليس لمجرد مراعاة حسن الأدب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد وهي أن العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلا لله سبحانه فإن الإنسان محجوب عما وراء نفسه لا يملك بإذن الله إلا نفسه ولا يحيط إلا بها وإنما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلت عليه الأمارات الخارجية وبمقدار ما ينكشف بها وأما الإحاطة بعين الأشياء ونفس الحوادث وهو العلم حقيقة فإنما هو لله سبحانه المحيط بكل شيء الشهيد على كل شيء والآيات الدالة على هذه الحقيقة لا تحصى.
فليس للموحد العارف بمقام ربه إلا أن يسلم الأمر له وينسب العلم إليه ولا يسند إلى نفسه شيئا من الكمال كالعلم والقدرة إلا ما اضطر إليه فيبدأ بربه فينسب إليه حقيقة الكمال ثم لنفسه ما ملكه الله إياه وأذن له فيه كما قال : « عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ » العلق : ٥ وقال : « قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا » البقرة : ٣٢ إلى آيات أخرى كثيرة.