وذلك أن كون الحق في الآية بمعنى العدل والإنصاف لا شاهد عليه من اللفظ على أن الذي ذكره من المعنى إنما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببية.
وكذا ما ذكره بعضهم أن الحق بمعنى الحكمة وأن الجملة الأولى ( وَما خَلَقْنَا ) إلخ ، ناظرة إلى العذاب الدنيوي والثانية ( وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) إلى العذاب الأخروي والمعنى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور ، وقد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح ، وإن الساعة لآتية فينتقم أيضا فيها من أمثال هؤلاء.
وفي الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر والتفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى قرصته فاستدل بها أصحاب الجبر على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أعمالهم من جملة ما بينهما فهي مخلوقة له.
واستدل بها أصحاب التفويض على أن أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم فإن المعاصي وقبائح الأعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق.
والحق أن الحجتين جميعا من الباطل فإن جهات القبح والمعصية في الأفعال حيثيات عدمية إذ الطاعة والمعصية كالنكاح والزنا وأكل المال من حله وبالباطل وأمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل وإنما تختلف طاعة ومعصية بموافقة الأمر ومخالفته والمخالفة جهة عدمية ، وإذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فإن ذلك من جهاته العدمية فليس الفعل بجهته العدمية مما بين السماوات والأرض حتى تشمله الآية ، ولا بجهته الوجودية من الباطل حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق.
على أن الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل والمعلولات في الوجود وأن قيام وجود شيء بشيء بحيث لا يستقل دونه هو ملاك الاتصاف فالمتصف بالطاعة والمعصية وحسن الفعل وقبيحه هو الإنسان دون الذي خلقه ويسر له أن يفعل كذا وكذا كما