فرض نزولها يوم بدر لم يوجب خصوص السبب في عموم مدلول الآية شيئا كما في سائر الآيات التي جمعت بين عموم الدلالة وخصوص السبب.
قال صاحب المنار في تفسيره : وإنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الآية قد نزلت قبل اشتباك القتال ـ خلافا للجمهور ـ مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها أول غزوة في الإسلام لو انهزم فيها المسلمون والنبي صلىاللهعليهوآله فيهم لكانت الفتنة كبيرة. وتأييد المسلمين بالملائكة يثبتونهم ، ووعده تعالى بنصرهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.
فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص وقرينة الحال في النهي اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذي في الآية خاصا بها. أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة (رض) بالتولي والإدبار في القتال مرتين مع وجوده صلىاللهعليهوآله معهم : يوم أحد وفيه يقول الله تعالى ( ٣ : ١٥٥ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ويوم حنين ، وفيه يقول الله تعالى ( ٩ : ٢٥ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ـ ٢٦ ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) إلخ ، وهذا لا ينافي كون التولي حراما ومن الكبائر ، ولا يقتضي أن يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير بل قد يكون دون ذلك ، ويتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة ، وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتي تفصيله قريبا.
وقد روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال : « كنت في سرية من سرايا رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص ـ فقلنا : كيف نصنع ـ وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا؟ ثم قلنا : لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا ، فأتيناه قبل صلاة الغداة ـ فخرج فقال : من الفرارون؟ فقلنا : نحن الفرارون. قال : بل أنتم العكارون إنا فئتكم وفئة المسلمين. قال : فأتينا حتى قبلنا يده.