تعرض لذلك آيات جمة من القرآن كسورة المنافقين وما في سور البقرة والنساء والمائدة والأنفال والبراءة والأحزاب وغيرها.
فليت شعري أين صار جمعهم؟ وكيف خمدت أنفاسهم؟ وعلى أي طريق بطل كيدهم وزهق باطلهم؟ وكيف يصح مع وجودهم أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم ، وإتمام ظاهر النعمة عليهم ، والرضا بظاهر الإسلام بمجرد أن دفع من مكة أعداءهم من المسلمين ، والمنافقون أعدى منهم وأعظم خطرا وأمر أثرا! وتصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيه فيهم : « هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ » : ( المنافقون : ٤ ).
وكيف يمتن الله سبحانه ويصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه ، أو يذكر نعمه بالتمام وهي مشوبة بالنقمة ، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه! وقد قال تعالى : « وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً » : ( الكهف : ٥١ ) وقال في المنافقين : ـ ولم يرد إلا دينهم ـ « فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ » : ( البراءة : ٩٦ ) والآية بعد هذا كله مطلقة لم تقيد شيئا من الإكمال والإتمام والرضا ولا الدين والإسلام والنعمة بجهة دون جهة.
فإن قلت : الآية ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ إنجاز للوعد الذي يشتمل عليه قوله تعالى : « وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً » : الآية ( النور : ٥٥ ).
فالآية كما ترى ـ تعدهم بتمكين دينهم المرضي لهم ، ويحاذي ذلك من هذه الآية قوله : « أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » وقوله : « وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » فالمراد بإكمال دينهم المرضي تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين ، وأما المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة ، وهذا هو المعنى الذي تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة ، ويذكر القوم أن المراد به تخليص الأعمال الدينية والعاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين.
قلت كون آية : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ » ، من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله : « وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا » (الآية) وكذا كون قوله في هذه الآية : « أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » ، محاذيا لقوله : « وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ » ، في تلك الآية ومفيدا معناه كل ذلك لا ريب فيه.
إلا أن آية سورة النور تبدأ بقوله : « وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ »