في صنوف الاستعارات القرآنية ولعل من أبلغ ما أورده تعقيبا وشرحا وبيانا ، تلك الاستعارات التي كشف فيها عن ذائقته الفطرية في استحياء المراد القرآني وسأكتفي بإيراد بعض النماذج في ذلك :
أ ـ في قوله تعالى ( وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون (٩٣) )(١) قال الرضي : « وهذه استعارة. والمراد بها : أنهم تفرقوا في الأهواء واختلفوا في الآراء ، وتقسمتهم المذاهب ، وتشعبت بهم الولائج(٢) ومع ذلك فجميعهم راجع الى الله سبحانه ، على أحد وجهين : إما أن يكون رجوعا في الدنيا. فيكون المعنى : انهم وإن اختلفوا في الاعتقادات صائرون الى الإقرار بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم ، ومصرفهم ومدبرهم. أو يكون ذلك رجوعا في الآخرة ، فيكون المعنى أنهم راجعون الى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال ، وموفّى الثواب والعقاب ، والى حيث لا يحكم فيهم ، ولا يملك أمرهم إلا الله سبحانه.
وشبّه تخالفهم في المذاهب ، وتفرقهم في الطرائق ، مع أن أصلهم واحد ، وخالقهم واحد ، بقوم كانت بينهم ، وسائل متناسجة ، وعلائق متشابكة ، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق ، وشذب تلك الوصائل ، فصاروا أخيافا(٣) مختلفين ، وأوزاعا مفترقين »(٤).
ب ـ وفي قوله تعالى ( ومن النّاس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ) (٥) يحمل الرضي الآية على التصوير الاستعاري ، ويعطيك معنى عبادة المرء ربه على حرف ، تشبيها بالقائم على جرف هار ، وحرف هاو. يقول : « والمراد بها ـ والله أعلم ـ صفة الإنسان المضطرب الدين ، الضعيف اليقين ، الذي لم تثبت في الحق قدمه ، ولا استمرت عليه مريرته ، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها ،
__________________
(١) الأنبياء : ٩٣.
(٢) الولائج : جمع وليجة ، وهي بطانة الإنسان.
(٣) يقال : هم أخوة أخياف ، بمعنى : أمهم واحدة وآباءهم متعددون.
(٤) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.
(٥) الحج : ١١.