والواقع أن اللغة لم تكن لتسعف القاضى فى تأويلاته لو أنه كان ينطلق فى ذلك على منهج باطل ، فعل الباطنية مثلا ، ومن هنا يمكن الحكم على منهج القاضى فى المتشابه وفى التأويل ، كما يمكننا أن نرجح تسمية تأويله بالتأويل العقلى ـ دون التأويل اللغوى (١) ـ لأن اللغة لا تعدو أن تكون أداة لهذا التأويل فى نهاية المطاف ، وإن كان لا يمتنع أن نقول إن القاضى وسائر المعتزلة يعتمدون فى تأويلهم لكتاب الله على شيئين رئيسيين : هما العقل واللغة (٢).
من شواهد الاعتماد على اللغة :
ونكتفى فى بيان هذا الاعتماد على اللغة ـ والذى تكاد تخلو منه
__________________
(١) سمى جولد زيهر منهج المعتزلة فى التأويل بالمنهج اللغوى! وقد تناولنا هذه النقطة فى البحث الذى نعده عن منهج المعتزلة فى التفسير. والذى تناولنا فيه جميع قواعد هذا المنهج فى التفسير والتأويل.
(٢) من طريف ما يدل على هذا المنهج المقلى لدى المعتزلة ما أجاب به جعفر بن مبشر ـ أبو محمد الثقفى من رجال الطبقة السابعة ـ الخياط حين سأله عن قوله تعالى : [ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ] وعن الختم والطبع. فقال : ( أنا مبادر إلى حاجة. ولكنى ألقى إليك جملة تعمل عليها : اعلم أنه لا يجوز على أحكم الحاكمين أن يأمر بمكرمة ثم يحول دونها.
ولا أن ينهى عن قاذورة ثم يدخل فيها. وتأول الآيات بعد هذا كيف شئت ) طبقات المعتزلة. ص : ٧٦.
أما تمكن المعتزلة من لسان العرب ولغتها ، مما أعانهم على تأويلاتهم العقلية ، فأشهر من أن يتحدث عنه ، وبحسبهم العلاف والنظام والجاحظ ، والجبائيان ، وشهادة علماء اللغة ، قال المبرد : ( ما رأيت أفصح من أبى الهذيل والجاحظ ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة ، شهدته فى مجلس وقد استشهد فى جملة كلامه بثلاثمائة بيت ). طبقات منزلة ص : ٤٥ وقال ثمامة : ( وصفت أبا الهذيل للمأمون فلما دخل عليه جعل المأمون يقول لى : يا أبا معن وأبو الهذيل يقول لى يا ثمامة. فكدت أتقد غيظا. فلما احتفل المجلس استشهد فى عرض كلامه بسبعمائة بيت ، فقلت : إن شئت فكننى وإن شئت فسمنى! ). المصدر السابق ، ص : ٤٦. وانظر الفصل الذى عقده الحاكم لذكر ( من ذهب إلى العدل من الشعراء وأئمة اللغة ) والذى قال فى أوله : ( أكثر نحاة البصرة ، وكثير من أهل اللغة. وجملة من الشعراء وأئمة الأدب يذهبون مذهب العدل ) شرح عيون المسائل. المجلد الأول. ورقة ١٦٣ ـ ١٦٦.