نستطيع إذن أن نعد ابن سينا بين المتفائلين ، أمثال سقراط وأفلاطون والرواقيين من القدامى أو ليبنتز وفولتير من المحدثين. وقد عاش فى جو لم تفقد فيه مشكلة الصلاح والأصلح كل ما كان لها من صدى ، بعد أن رددها المعتزلة فى حماس وقوة قبله بنحو قرن أو يزيد. واتصل بالغنوصية المزدكية والمانوية التي جعلت من الخير والشر مبدأين أساسيين لفلسفتها وعقيدتها. ومع هذا يأبى ابن سينا إلا أن يربط نظريته فى العناية بأرسطو والمشائية ، وكأنه ينحو فى ذلك منحى الاسكندر الأفروديسى الذي عزّ عليه أن تكون هذه النظرية من صنع الرواقيين وحدهم. حقا إن المعلم الأول حرص على أن يخضع الكون لشىء من النظام والغاية ، وردد أن الله والطبيعة لا يعملان شيئا عبثا ، ولكن فكرة الألوهية عنده لا تتسع لمعنى العناية.
ومهما يكن من أمر فابن سينا يردّ ـ كليبنتز ـ الخير والشر إلى الله ، ولا يرى فى صدور الشر عنه نقصا ، لأن ما هو شر فى ذاته خير بالنسبة لجملة العالم. ولكن أليس فى هذا تحديد لقدرة البارئ جل شأنه؟ يظهر أن القائلين بنظرية الصدور فاتهم جميعا أن يضعوا القدرة الإلهية فى مكانها اللائق بها. ومن جهة أخرى ، أما كان فى الإمكان أن يخلق العالم ولا شرور فيه؟ يضع ابن سينا هذا السؤال ، ولا يجد جوابا عليه إلا أن النظام الأكمل للكون يقتضى وجود هذه الشرور (١).
( د ) الإلهيات فى العالم العربى
سبق لنا أن عرضنا لأثر كتاب « الشفاء » فى العالم العربى ، وبيّنا أنه كان دعامة قوية من دعائم الفكر الإسلامى العلمى والفلسفى منذ القرن الخامس إلى القرن الرابع عشر للهجرة (٢). وإذا وقفنا عند « الإلهيات » خاصة ، وجدنا أنه كان من أشد أقسامه تأثيرا ، لأنه يدور حول مشاكل شغلت الأذهان وكانت أساس البحث فيما سمى بعلوم المعقول.
__________________
(١) ابن سينا ، الإلهيات ، ص ٤٢٢.
(٢) إبراهيم مدكور ، المدخل ، القاهرة ١٩٥٢ ، مقدمة ، ص (٢٨).