صدور الكل عنه ، فتعقله علة للوجود ، وأول موجود صدر عنه هو العقل الأول ، وهو ممكن بذاته ، واجب الوجود بغيره. ولا يمكن أن يصدر عنه إلاّ جوهر مفارق واحد ، لأنه هو نفسه واحد من كل الجهات. وعند العقل الأول تبدأ الكثرة : فبتعقله لواجب الوجود يصدر عنه العقل الثاني ، وبتعقله لذاته من ناحية أنه واجب الوجود بغيره تفيض عنه نفس فلكية ، ومن ناحية أنه ممكن الوجود يفيض عنه الفلك الأقصى. وهكذا حتى نصل إلى العقل العاشر ، أو العقل الفعّال الذي يدبّر عالم الأرض. وتصدر عنه الهيولى الأولى وصورها المختلفة ، بما فيها النفوس البشرية ، ولذا سمى « واهب الصور » (١).
وإنما كانت العقول عشرة تبعا لعدد الأفلاك ، على حسب ما قرره بطليموس فى كتاب « المجسطى ». حقا إن أرسطو يصعد بها إلى نحو ٥٥ ، ولكن النظريات الفلكية التي جاءت بعده أدق وأضبط (٢). فهناك عشرة عقول ، منها تسعة لعالم السماوات وواحد لعالم الأرض ، وإلى جانبها تسع نفوس فلكية. وهذه العقول تفسر الحركة والتغير ، كما تفسر الوجود والصلة بين الله والعالم. فهى مصدر حركة الأفلاك ، لأنها قوة غير متناهية. وإذا كان لكل فلك نفس خاصة به ، فإنما تستمد قوتها من عقل الفلك نفسه (٣). ونستطيع بهذا أن نفسر عبارات وردت على لسان المعلم الأول ، وفيها ما يؤذن بالتناقض ، وهى « أن الفلك متحرك بطبعه » ، أو « أنه متحرك بالنفس » ، أو « أنه متحرك بقوة غير متناهية » (٤). وتتحرك العقول والنفوس الفلكية بعامل الشوق والتشبه بالأسمى. وبما أنها كلها تعشق واجب الوجود ، فالحركة والتغير مردهما فى آخر الأمر إليه (٥).
والعالم مخلوق من عدم ، ولكنه قديم ، « كان الله وخلق » ، لا أنه « كان ثم خلق ». لأن القول بحدوث العالم ، على نحو ما تصوره « أحداث المتفلسفة الإسلامية » ، يؤذن بطروء التغير على الله ، وهذا محال (٦). ويظهر أن ابن سينا يشير هنا إلى بعض معاصريه ،
__________________
(١) المصدر السابق ، ص ٤٠٢ ـ ٤٠٨.
(٢) المصدر السابق ، ص ٤٠٠.
(٣) المصدر السابق ، ص ٣٨٦ ـ ٣٩٤.
(٤) المصدر السابق ، ص ٣٩٢.
(٥) المصدر السابق ، ص ٣٩٣.
(٦) المصدر السابق ، ص ٣٧٦ ـ ٣٨٠.