هذه هى فكرة الألوهية عند ابن سينا ، وتقوم على أساسيين واضحين هما التوحيد والتنزيه ، فتلتقى دون نزاع مع العقيدة الإسلامية. وفيها عناصر أرسطية ظاهرة ، فالمبدأ الأول عند ابن سينا ، كالمحرك الأول عند أرسطو ، ليس جسميا بحال ، لأنه فعل دائم ، والمادة ليست إلا قوة. وهو أيضا عقل يعقل نفسه ، وهنا نجد لدى الفيلسوفين ألفاظا وعبارات تكاد تتكرر بنصها. إلا أن فيلسوف الإسلام لا يلبث أن يبتعد عن فيلسوف اليونان ، ليقترب من عقيدته على نحو ما صورها معاصروه ومن سبقوه من فلاسفة ومتكلمين.فيرى أن المبدأ الأول واجب الوجود بذاته ، وليست بنا حاجة إلى البرهنة على وجوده ، وبذا يسلم من برهان الحركة المضنى الذي عوّل عليه أرسطو فى الجزء الثامن من « السماع الطبيعى » ، وعاد إليه فى « ما بعد الطبيعة ». ويحاول على نحو ما صنع ثامسطيوس من قبل ، فى شرحه « لمقالة اللام » ، أن يبسط علم الله ويخرج به عن دائرة ذاته ، لأنه ، وهو يعقل ذاته ، يعقل عن طريقها كل شىء (١). وهذا ما لم يقصد إليه أرسطو الذي حرص على أن يعزل إلهه عن عالم التغير والمادة عزلا يكاد يكون تاما (٢). على أن هذا التأويل لا يرضى المتكلمين ، وخاصة الغزالى الذي حمل على الفلاسفة حملة عنيفة ، لأنهم قصروا علم الله على الكليات ، وهو الذي يحيط بكل شىء. وكأنما كان ابن سينا يتوقع هذه الحملة ، لذا شاء أن يستخلص من العلم بالكليات علما بالجزئيات. ذلك لأن الأول يعلم الأسباب ، ويعلم ضرورة ما يترتب عليها ، فيكون مدركا للامور الجزئية من حيث هى كلية (٣). ولكن هل يسمى هذا علما بالجزئيات حقيقة؟
٨ ـ الصدور :
لا يقف ابن سينا عند المحرّك الذي يحرّك دون أن يتحرك ، ويقصد إلى إثبات أن الله علة فاعلة لا مجرد غاية وهدف ، فيقول بالصدور ليبين الصلة بين الله والعالم ، ويفسر الخلق والإبداع. وما دام واجب الوجود عقلا محضا ، فهو يعقل ذاته ، ويعقل ضرورة
__________________
(١) عبد الرحمن بدوى ، أرسطو عند العرب ، ج ١ ، « من شرح ثامسطيوس لحرف اللام » ، ص ٢٠.
(٢) Ross ,Aristotle ,London ١٨٨٠ ,p .١٨٣ .
(٣) ابن سينا ، الإلهيات ، ج ٢ ، ص ٣٦٠.