القادر الذي ليس له ضد ، الصمد الذي ليس له ند ، الملك الذي ليس معه أحد أن يجعلك ملكا عدلا ، إماما في الهدى ، قائدا إلى التقوى ، ومبصرا من العمى ، وزاهدا في الدنيا ، ومحبا لذوي النهى ، ومبغضا لاهل الردى ، حتى يفضي بنا وبك إلى ما وعدالله أوليائه على ألسنة أنبيائه من جنته ورضوانه ، فإن رغبتنا إلى الله في ذلك ساطعة ، ورهبتنا منه باطنة ، وأبصارنا إليه شاخصة (١) وأعناقنا له خاضعة ، وامورنا إليه صائرة.
فرق ابن الملك لذلك الدعاء رقة شديدة ، وازداد في الخير رغبة ، وقال متعجبا من قوله : أيها الحكيم أعلمني كم أتى لك من العمر؟ فقال : اثنتا عشر سنة ، فارتاع لذلك ابن الملك ، وقال : ابن اثنتى عشرة سنة طفل وأنت مع ما أرى من التكهل كابن ستين سنة. قال الحكيم : أما المولد فقد راهق الستين سنة ، ولكنك سألتني عن العمر وإنما العمر الحياة ، ولا حياة إلا في الدين والعمل به ، والتخلي من الدنيا ولم يكن ذلك لي إلا من اثنتى عشرة سنة ، فأما قبل ذلك فإني كنت ميتا ولست أعتد في عمري بأيام الموت ، قال ابن الملك : كيف تجعل الاكل والشارب والمتقلب ميتا؟ قال الحكيم : لانه شارك الموتى في العمى والصم والبكم وضعف الحياة وقلة الغنى ، فلما شاركهم في الصفة وافقهم في الاسم.
قال ابن الملك : لئن كنت لا تعد حياتك تلك حياة ولا غبطة ما ينبغي لك أن تعد ما تتوقع من الموت موتا ، ولا تراه مكروها ، قال الحكيم : تغريري في الدخول عليك بنفسي يا ابن الملك مع علمي لسطوة أبيك على أهل ديني يدلك على أني لا أرى الموت موتا ، ولا أرى هذه الحياة حياة ، ولا ما أتوقع من الموت مكروها ، فكيف يرغب في الحياة من قد ترك حظه منها؟ أو يهرب من الموت من قد أمات نفسه بيده ، أولا ترى يا ابن الملك أن صاحب الدين قد رفض الدنيا من أهله وماله وما لا يرغب فيها إلا له (٢) واحتمل من نصب العبادة مالا يريحه منه إلا
____________________
(١) في بعض النسخ «وأبصارنا اليه خاشعة».
(٢) كذا.