وكيف يجوز أن يكون ذلك في الهدهد وهو غير مكلف ولا يستحق مثله العذاب فالجواب عنه أن العذاب اسم للضرر الواقع وإن لم يكن مستحقا فليس يجري مجرى العقاب الذي لا يكون إلا جزاء على أمر تقدم فليس يمتنع أن يكون معنى لأعذبنه أي لأؤلمنه ويكون الله تعالى قد أباحه الإيلام له كما أباحه الذبح له لضرب من المصلحة كما سخر له الطير يصرفها في منافعه وأغراضه وكل هذا لا ينكر في نبي مرسل تخرق له العادات وتظهر على يده المعجزات وإنما يشتبه على قوم يظنون أن هذه الحكايات تقتضي كون النملة والهدهد مكلفين وقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك (١).
وقال قدس الله روحه أيضا في جواب المسائل الطرابلسيات فأما الاستبعاد في النملة أن تنذر باقي النمل بالانصراف عن الموضع والتعجب من فهم النملة عن الأخرى ومن أن يخبر عنها بما نطق القرآن به من قوله : « يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا » الآية فهو في غير موضعه لأن البهيمة قد تفهم عن الأخرى بصوت يقع منها أو فعل كثيرا من أغراضها ولهذا نجد الطيور وكثيرا من البهائم يدعو الذكر منها الأنثى بضرب من الصوت يفرق بينه وبين غيره من الأصوات التي لا تقتضي الدعاء والأمر في ضروب الحيوانات وفهم بعضها عن بعض مرادها وأغراضها بفعل يظهر أو صوت يقع أظهر من أن يخفى والتغابي عن ذلك مكابرة فما المنكر على هذا أن يفهم باقي النمل من تلك النملة التي حكي عنها ما حكي الإنذار والتخويف فقد نرى مرارا نملة تستقبل أخرى وهي متوجهة إلى جهة فإذا حاذتها وباشرها عادت عن جهتها ورجعت معها وتلك الحكاية البليغة الطويلة لا يجب أن تكون النملة قائلة لها ولا ذاهبة إليها وإنها لما خوفت من الضرر الذي أشرف النمل عليه جاز أن يقول الحاكي لهذه الحال تلك الحكاية البليغة المرتبة لأنها لو كانت قائلة ناطقة ومخوفة بلسان وبيان لما قالت إلا مثل ذلك وقد يحكي العربي عن الفارسي كلاما مرتبا مهذبا
__________________
(١) غرر الفوائد : ٣٩٥ ـ ٣٩٧.