سلمان سابق فارس عرض وتحليل

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

سلمان سابق فارس عرض وتحليل

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ١٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

شرح دعاء كميل ـ عبد الأعلى السبزواري

١
 &

شرح دعاء كميل ـ عبد الأعلى السبزواري

٢
 &



بسم الله الرحمٰن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى اله الطاهرين ، وصحبه المنتجبين ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين .

وبعد . كنا قد قدمنا للقراء الكرام الحلقة الأولى من « سلسلة الأركان الأربعة » والتي تناولت حياة الصحابي الجليل « أبو ذر الغفاري » رضي الله عنه حيث نالت استحساناً نمّ عنه سرعة نفاذ النسخ في خلال أشهر مما شجعنا على متابعة السير في خطىً حثيثة والإسراع في اخراج باقي الحلقات بالشكل اللائق .

والآن نقدم للقراء الكرام الحلقة الثانية وهي تتناول حياة الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه أحد الأركان الأربعة ، وسابق فارس نحو الإسلام ، آملين من الله سبحانه أن يوفقنا لإتمام باقي الحلقات ، وأن يأخذ بيد المسلمين كافة إلى ما فيه الخير والصلاح .

ولا يفوتنا القول بأن الدار قد حرصت كل الحرص على اخراج هذا الكتاب بالشكل اللائق المناسب إيماناً منها بضرورة الإخلاص في العمل والتسهيل على القراء الكرام ، والله حسبنا ونعم الوكيل .

٣
 &



قالَ عليٌ " عليه السلام " : « السبّاق خمسَة فأنا سَابق العربْ وسَلمان سَابق فارس وصهيبْ سَابق الرّوم وبلال سَابق الحَبش وَخبابْ سَابق النبْط »

الخصَال " ٣١٢ "

٤
 &

بين يدي القارىء

على مقربة من بغداد صوب الشرق ، تلوح للناظر من بعيد بلدة صغيرة تدعى « المدائن » يلتقي فيها شاهدان . شاهد كسرى وشاهد سلمان .

أما شاهد كسرى ، فذلك الطاق المحدودب الهرم الذي يحكي قصة جبروت صانعيه ، والذي بقي أثراً من الإيوان الشهير الذي أقامه كسرى أنوشروان ليصبح فيما بعد مقراً للأكاسرة حيث كانوا يطلقون عليه إسم « القصر الأبيض » وكانوا يديرون من بين أروقته حكم ثالث إمبراطورية في العالم القديم ، لم يبق منه اليوم سوى هذا الطاق . وهو إن دل على شيء فانما يدل على شموخ الإسلام وعظمته حيث إستطاع أن يقضي على مظاهر الأباطرة والآكاسرة بفترة وجيزة من أيام حكمه .

وأما شاهد سلمان ، فضريح ومزار وقبة ومئذنتان ينطلق منهما صوت الحق عالياً مدوياً كل يوم يحكي قصة الإيمان والتضحية والشرف . وهناك تحت تلك القبة الشامخة يتمدد جسد ذلك الصحابي العظيم « سلمان سابق فارس نحو الإيمان » والذي ستبقى روحه الزكية مناراً يشع عبر العصور باسمى معاني النبل والوفاء للإسلام العظيم ولرسالته الخالدة ، كما ستظل سيرته مؤشراً يلوح للمسلمين بأن يوحدوا خطاهم على درب الله .

ان من عظيم الحكمة وبديع التدبير أن يهيء الله سبحانه أفراداً من أمم شتى وقوميات مختلفة يساهمون في دعم دينه وهو بعد لم يزل في طور نشأته

٥
 &

ونموه ، فكان منهم العربي والفارسي والرومي والحبشي والنبطي وكانوا كلهم سواء في ساحته يجسدون عنوان وحدته وشموله ويمثل هو عنوان وحدتهم وقوتهم دون أن يكون لإختلاف الدم أو العنصر أي تأثير .

ولقد كان للمبادرين الأول في هذا المضمار ميزة خاصة من بين سائر المسلمين مكنتهم من إحتلال الصدارة في التأريخ الإسلامي ، وأعطتهم لقب السبّاق نحو الإسلام وكان من بينهم صاحبنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه .

قال علي عليه السلام : السُبّاق خمسة ، فأنا سابقُ العربْ ، وسلمان سابقُ فارس وصهيبُ سابق الروم ، وبلال سابقُ الحبشة ، وخبّابُ سابقُ النبط » .

لقد استطاع هؤلاء النفر أن يجسدوا نظرية الإسلام حول التفاضل بين بني الإنسان ، هذه النظرية التي تقوم على أساس التقوى ، تقوى الله سبحانه واطاعته والسير على منهاجه الذي إرتضاه ، كما هو صريح التعبير القرآني . قال تعالى :

« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » . ٤٩ ـ ١٣

فكانوا أوضح مصداق لهذا المضمون بفضل سلوكهم الصحيح المتسم بالإخلاص والجدية والتفاني في سبيل الله ورفع كلمته ، وبهذا صار كل واحد منهم سابق أمته باستحقاق وجدارة .

ومن ثم ، فقد شن الإسلام حرباً شاملةً في وجه العصبيات بشكل عام ، وكافح دعاتها ، فالعصبية ـ عنصريةً كانت أو عرقيةً أو قبلية ـ لا ترتبط بأي مبدإٍ ذي قيمةٍ من الوجهة الأخلاقية ، ولا تخضع لأي منطق عقلي ، بل الحكم فيها يرجع إلى العاطفة وحدها ، لأن العصبية لا تعدو كونها ثورةً عاطفية تنتاب الفرد أزاء قرابته أو قبيلته أو بني قومه ، دون أن يكون للعدل فيها دور ، لذا فان الإسلام قد دعا إلى قلب هذه العقلية التي يتسّم بها المجتمع الإنساني بشكل عام وتوجيهها بطريقة إنعاكسية نحو الإيمان بالله سبحانه ، فهو

٦
 &

أداة الربط بين المؤمنين يجمع شتاتهم ، ويشد عزائمهم ، ويوحد صفوفهم ، وهو أيضاً الوسيلة الناجعة للوصول إلى درب الخلاص ، ومن ثم النهوض بالإنسانية إلى أرقى وأسمى القيم التي تنشدها على هذه الأرض ، الإيمان بالله ، ورسله ، وكتبه ، واليوم الآخر بكل ما انطوت عليه هذه الكلمات من مضامين عالية نبيلة تتهافت عندها جميع الحواجز المادية التي تلف حياة الإنسان ، كما تتلاقى في ساحتها جميع القلوب الخيرة المفتوحة لا فرق في ذلك بين الإنسان الأبيض والأحمر والأسود والأصفر والقريب والبعيد . قال سبحانه وتعالى :

« لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » . ٥٨ ـ ٢٢

ولقد كان صاحبنا « سلمان الفارسي » رضي الله عنه أحد المجسدين لهذا الشعار القرآني بعزم وإرادة وتصميم يفوق حد الوصف ، جسده في بداية إيمانه حين هجر أهله ووطنه في سبيل الوصول إلى منابع الإيمان ـ كما ستقرأ ـ ضارباً عرض الحائط كل تفاهات المجوسية واساطيرها دون تردد أو وجل . وجسده بعد إسلامه حين غزا المسلمون أرض فارس سنة ١٥ للهجرة وأطاحوا بآكاسرتها وأساورتها حيث كان هذا الرجل العظيم « داعية المسلمين ورائدهم » في تلك الوقعة ـ على حد تعبير ابن الأثير ـ فكان يدعو قومه إلى الإسلام ، يدعوهم كما كان النبي صلى الله عليه وآله يدعوهم ، فان أبوا ناجزهم ونهدَ إليهم .

إن قصة إسلام هذا الصحابي الجليل فريدة من نوعها في عالم التدين ـ حسبما أعلم ـ اللهم عدا ما يختص بالأنبياء والرسل وأوصيائهم ، فهي لا تخلو من مآثر وكرامات وخوارق تتصل كلها بعالم التدين وما يربط بين الأديان جميعاً ، بل هي في ذاتها حافز للمؤمنين يمدهم بمزيدٍ من الثبات والثقة ، وهي

٧
 &

أيضاً بقدر كونها وثيقة تأريخية تثبت آصالة الأديان السماوية ، تؤكد ـ وبكل وضوح ـ كون الإسلام هو خاتمة تلك الأديان .

« إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ » . ٣ ـ ١٩

فأنت حين تقرأ سلمان في هذا الكتاب ، ستجد نفسك وجهاً لوجه أمام انسان وقف كل حياته لأجل أن يحظى بنصيب أكبر من عالم الروح والإيمان ، وحين تتعمق في قرائته أكثر ، ستدرك ولا شك أن هذا الانسان المثل كان فريداً من نوعه ، وفي أبناء جنسه وفي مسلكه وفي عمق إدراكه ، حتى ليخيّل إليك أن كان أمةً في جانب ، والناس في جانب ، وستلمس أن هذا الإنسان الذي بدأت حياته بالغرائب والعجائب ، انتهت حياته كذلك .

إنه الرجل الذي استطاع ان يمثل أمةً بأكملها دون أن يستطيع أَحد تمثيله ـ إلا ما يعلم الله ـ لا أقول هذا جزافاً أو إعجاباً ، بل أقوله للحق ، وللحق وحده ، فلقد كنت ألوم بعض الذين كتبو عن « سلمان » وأمعنوا في سرد كراماته ومآثره ، بل كنت أعتبر ذلك غلواً منهم وتطرفاً دافعهما الحب والإخلاص ، لكنني حين تأملت ما كتبه المؤرخون حوله ، وجدت أن الأمر كما قالوا ، وأن الصورة التي رسمت له هي الصورة الصحيحة .

رحم الله سلمان ، هلالاً أطل من سماء فارس ليشرق بدراً في دنيا الإسلام .

٨
 &

بسم الله الرحمن الرحيم

« واصـْبِرْ نفسـَك معَ الـذِينَ يـَدعُونَ رَبَّـهُم بالغـَدَاةِ والعشي ـ يُرِيدُونَ وجهَهُ وَلا تَعدُو عيناكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدنيا ولا تُطِـع مَن أغفلنَا قلبَهُ عَن ذِكـرِنَا وإتَّبَـعَ هـَواهُ وَكـَانَ أَمـرُهُ فـُرُطـَا » الكهف ـ ٢٨

نزلت في سلمان

سلمانُ مِنَّا أهل البيت . لو كَانَ الدينُ في الثُريَّا لنالَهُ سلمان .

سلمانُ يُبْعَثُ أُمةً ، لقد أُشبعَ مِنَ العِلْمِ .

الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم

سلمان : إمروءٌ مِنَّا وإلَيْنَا أهلَ البيْتْ ، مَنْ لَكُمْ بِمثْلِ لُقْمانَ الحَكِيمْ ، عَلِمَ العِلْمَ الأولْ والعِلْمَ الآخِر ، وقرأَ الكِتَابَ الأوَلْ والكِتَابَ الآخِرْ ، وكَانَ بَحْراً لا يُنْزَف .

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

٩
 &

شرح دعاء كميل ـ عبد الأعلى السبزواري

١٠
 &

سلمان والمجوسية

قال سلمان رضي الله عنه وأرضاه :

« كنت ابن دهقان * قرية جي من أصبهان ، وبلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار . . » (١) .

الذي يبدو من هذا النص أن سلمان اعتنق المجوسية في بادىء أمره عندما كان يعيش في ظل أبويه شأن أي إنسان يعتنق دين آبائه وأجداده حين لا يجد مندوحةً عن ذلك وحين يفتقد المرشد والموجّه ويعيش بعيداً عن آفاق المعرفة . ومع هذا فان ذلك لا يمكن جعله خدشةً في نقاء الذات التي كان يحملها سلمان ولا وصمةً في طهرها ، سيما بعد أن يتضح لنا أن إرتباطه بالمجوسية كان شكلياً صورياً غير مستند إلى شيءٍ من قناعاته كما سيأتي .

وقبل البحث في هذه الناحية لا بد لنا من المرور في تأريخ « المجوسية » بشكل عابر وسريع نظراً لارتباط سلمان بها تأريخياً ، ومن ثم إيقاف القارىء على حقيقتها ، إذ أن للمجوسية في أذهاننا صورة لم تشأ الذاكرة أن تحتفظ منها بأكثر من « بيوت النيران » وتقديس المجوس أو عبادتهم لها حيث لم

__________________

* : الدهقان : أمير البيدر أو أمير الفلاحين . وقطن بيت النار : سادنها والمشرف عليها .

(١) : شرح النهج ١٨ / ٣٦ ومضمون هذا النص متفق عليه لدى أغلب المؤرخين .

١١
 &

يوفروا لأنفسهم من هذا الدين سوى طابع الوثنية وتأطيرهم أنفسهم به عبر العصور ، إذن طبيعة البحث تتطلب منا معرفة : ما هي المجوسية ؟

المعروف عن المجوس أنهم المؤمنون بزرادشت ، وكتابهم المقدس ( أوستا ) غير أن تاريخ حياته وزمان ظهوره مبهم جداً كالمنقطع خبره ، وقد افتقدوا الكتاب باستيلاء الإسكندر على إيران ، ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان ، فأشكل بذلك الحصول على حاق مذهبهم .

والمسلّم أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين ، مبدأ الخير ومبدأ الشر « يزدان وأهريمن » أو « النور والظلمة » ويقدسون الملائكة ويتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناماً كما يفعل الوثنيون ، وهم يقدسون البسائط العنصرية وخاصةً النار ، وكانت لهم بيوت نيران بإيران ، والصين ، والهند ، وغيرها ، وينهون الجميع إلى « أهورا مزدا » موجد الكل . » (١)

هل هم أصحاب كتاب ؟

والجواب عن هذا السؤال تتكفل به الكتب الفقهية لما يحمل من أهمية تتصل ببعض الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك نفياً أو إثباتاً .

فالمقصود بأهل الكتاب ، هم الأمة أو الفئة الخارجة عن الشريعة الإسلامية ، لكنها تعتنق شريعةً معينة تسندها إلى الخالق سبحانه بواسطة النبي المرسل إليها ، وهؤلاء منهم من له كتاب محقق كاليهود والنصارى فان التوراة والإنجيل كتابان سماويان بلا شبهة . ومنهم من له شبهة كتاب ، كالمجوس .

ولا يبعد أن المراد بالكتب الكتب المنزلة على أولياء العزم وهم : نوح ، وابراهيم ، وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، والذي بقي منها إنما هو التوراة والإنجيل لا غير ، فاختص اتباعهما باسم « أهل الكتاب » في القرآن الكريم ، ولم يثبت أن الإنجيل لم تكن له نسخة في زمن نزول القرآن غير هذه

__________________

(١) : لاحظ الميزان في تفسير القرآن ١٤ / ٣٥٨ .

١٢
 &

النسخ الأربع التي هي ليست منه في خلٍ ولا خمر ، لأنها وضعت من جماعة بعد صعود المسيح عليه السلام بمدد طويلة .

فإنجيل « مرقس » كتب بعد سبعين عاماً من صعود المسيح إلى السماء ، وانجيل « متى » كتب في أوائل القرن الأول من صعوده ، وانجيل « لوقا » كتب في أوائل القرن الثاني وهكذا انجيل « يوحنا » وهي تنقض بعضها بعضاً في نسب المسيح وغيره . (١)

أما المجوس ، فالذي يظهر من كلام الشهرستاني أن كتابهم هو : صحف ابراهيم عليه السلام ، لكن تلك الصحف قد رفعت لأحداثٍ أحدثوها . . (٢)

والأخبار الواردة في كتب الفقه تؤكد على أنهم من أهل الكتاب ، لكنها لا تشير إلى رفعه عنهم . فمن ذلك :

ما رواه الشافعي باسناده ، أن فروة بن نوفل الأسجعي قال : على ما تؤخذ الجزية من المجوس ، وليسوا بأهل كتاب ؟

فقام إليه المستورد ، فأخذ بتلبيبه فقال : عدو الله ، أتطعن في أبي بكر وعمر وعلي أمير المؤمنين « عليه السلام » وقد أخذوا منهم الجزية ، فذهب به إلى القصر فخرج علي عليه السلام ، فجلسوا في ظل القصر ، فقال : أنا أعلم الناس بالمجوس ، كان لهم علم يعلمونه ، وكتاب يدرسونه . (٣)

ومنه : ما رواه أحمد بن عبد الله بن يونس عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة : أن علياً عليه السلام قال على المنبر « سلوني قبل أن تفقدوني » فقام إليه الأشعث فقال : يا أمير المؤمنين ، كيف تؤخذ الجزية من المجوس ، ولم ينزل عليهم كتاب ، ولم يبعث اليهم نبي ؟ .

__________________

(١) : طهارة أهل الكتاب ، مخطوط ص ٧ .

(٢) : الملل والنحل ١ / ٢٠٨ .

(٣) : طهارة الكتابي ص ١٣ نقلاً عن سنن البيهقي ٩ / ١٨٨ .

١٣
 &

فقال : بلى يا أشعث ، قد أنزل الله عليهم كتاباً ، وبعث إليهم نبياً . . (١)

ومنه : صحيحة أو موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال : بعث النبي صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد إلى البحرين فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس ، فكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله اني قد أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة درهم ثمانمائة ، وأصبت دماء قوم من المجوس ولم تكن عهدت إلي فيهم عهداً .

فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله : إن ديتهم مثل دية اليهود والنصارى ، وقال : إنهم أهل الكتاب . (٢) إلى غير ذلك من النصوص .

واضع شريعة المجوس

الذي يظهر من أقوال المؤرخين أن واضع شريعتهم هو زرادشت الحكيم ، وأنه كان موحداً كما يستفاد ذلك من مجموع ما نقل من آرائه الفلسفية ، قال ابن الأثير :

« وشرح زرادشت كتابه وسماه « زند » ومعناه التفسير ، ثم شرح الزند بكتاب سماه « بازند » يعني تفسير التفسير وفيه علوم مختلفة كالرياضيات وأحكام النجوم والطب وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء . . الخ » (٣)

والذي يقوى عندي ـ بعد ملاحظة النصوص ـ أن زرادشت ليس هو واضع شريعتهم ، بل هو مجدد لها ومبين للكتاب الحقيقي الذي رفع عنهم .

__________________

(١) : الوسائل ١١ ب ٤٩ج ٧ ص ٩٨ وفيه أخبار كثيرة تشير إلى أنه كان لهم نبي فقتلوه وكتاب حرقوه لكنها غير معتبرة .

(٢) : الوسائل ١٩ ب ١٣ ح ٧ ص ١٦١ .

(٣) : الكامل ١ / ٢٥٨ وللتفصيل راجع الملل والنحل للشهرستاني فانه أسهب في عرض معتقداتهم ١ / ٢٣٣ وما بعدها .

١٤
 &

مذاهبهم

ويبدو أن الفرق المجوسية تنوف على أربع عشر فرقة ، منها : « الثنوية » « والمانوية » و « الزرادشتية » و « والكيومثرية » و « الزروانية » و « المسخية » و « الديصانية » . وغيرها . (١)

هل اعتنق سلمان المجوسية . . ؟

إلا أنه من المقطوع به عندي أن سلمان لم يعتنق المجوسية حتى في صباه ، بل كان موحداً لله سبحانه ، نعم حكمت عليه بيئته التي عاش فيها أن يرتبط بالمجوسية ارتباطاً شكلياً ، كما ورد ذلك في الأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين .

من ذلك ما رواه الصدوق عن ابن نباتة عن علي عليه السلام حديث جاء فيه : « حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلمان بين يديه فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى در العرق بين عينيه واحمرتا عيناه ثم قال : يا أعرابي أتنحي رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء ويحبه رسوله في الأرض . . إلى أن قال : إن سلمان ما كان مجوسياً ، ولكنه كان مظهراً للشرك مبطناً للإيمان . » (٢)

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام

« إن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين . » (٣)

قال الصدوق : إن سلمان ما سجد قط لمطلع الشمس ، إنما كان يسجد لله عز

__________________

(١) : الملل والنحل ١ / ٢٣٣ .

(٢) : لاحظ البحار ٢٢ / ٣٤٧ وستأتي القصة مفصلةً انشاء الله تعالى .

(٣) : البحار ٢٢ / ٣٢٧ .

١٥
 &

وجل ، وكانت القبلة التي أمر بالصلاة إليها شرقيةً ، وكان أبواه يظننان أنه إنما يسجد للشمس كهيئتهم . » (١)

أجل ، إن من يتتبع قصة إيمان هذا الرجل يلمس فيها شواهد على ذلك ، لقد خيل لي وأنا أكتب عن هجرته من فارس أن هذه الآية كانت تعج في أعماق نفسه : « قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » الأنعام ـ ٧٩

__________________

(١) : سلمان الفارسي / ٤ .

١٦
 &

الهجرةُ إلى الله

« وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »

٢٩ ـ ٢٦

١٧
 &

شرح دعاء كميل ـ عبد الأعلى السبزواري

١٨
 &



كان إسمه « روزبة » (١) وسماه رسول الله صلى الله عليه وآله سلمان ، وكان اسم أبيه « خشفوذان » (٢) . وكان هذا الأخير من دهاقين فارس ـ وقيل من أساورتها (٣) ـ . له إمرة على بعض الفلاحين من أبناء أصفهان وكان واسع الحال يملك بعض المزارع شأن غيره من الطبقة الوسطى في المجتمع الفارسي آنذاك وكانت لولده سلمان مكانة خاصة في نفسه جعلته يستأثر بالنصيب الأكبر من إهتماماته ، فهو لا يكلفه بأي عمل شاق شأنه في ذلك شأن بقية المترفين في معاملة أبنائهم .

وفي ذات يوم كان خشفوذان مشغولاً ببناءٍ في داره فطلب من ولده أن يذهب إلى مزرعةٍ له ليشرف على سير عمل الفلاحين فيها عن كثب وطلب منه أن لا يتأخر في العودة إليه ، قائلاً له : « ولا تحتبس ، فتشغلني عن كل ضيعةٍ بهمي بك . . »

يقول سلمان : « فخرجت لذلك ، فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون ، فملت إليهم وأعجبني أمرهم ، وقلت : والله هذا خير من ديننا ، فأقمت عندهم

__________________

(١) : على الأشهر ، وقيل ماية .

(٢) : اسم والد سلمان ، وقيل إسمه « بوذخشان » وقيل « بود » وقيل غير ذلك . راجع أعيان الشيعة ٣٥ / ٢٢٠ .

(٣) : الاستيعاب على « الاصابة ٢ / ٥٧ »

١٩
 &

حتى غابت الشمس ، لا أنا أتيت الضيعة ، ولا رجعت إليه . . ! »

لوحة رائعة يرسمها لنا سلمان وهو يسرد قصة إسلامه ، حيث يجسد لنا فيها كيف كانت بداية هجرته نحو الإيمان . . الإيمان بالله وحده ، بعزم وتصميم وإرادة قوية لا يقف دونها حاجز ولا تتحكم فيها عاطفة ، وكيف إختار لنفسه موقفاً مميزاً جعله فيما بعد من جملة عظماء البشر الذين يزين بهم التاريخ الإنساني صفحاته ، فكان بذلك « سابق فارس » ورائدها وداعيها إلى الله .

لقد كانت نفسه التواقة إلى المعرفة تدفعه نحو تخطي الحواجز التي عاش بين قضبانها في ظل أبٍ جمد عقله على طقوس المجوسية دون أن تحرك آيات المبدع سبحانه في نفسه أي تحولٍ نحو الأفضل .

أراد سلمان تخطي تلك الحواجز لكي يرى الحقائق الكامنة ورائها ، وكان له ما أراد ، فها هو يعثر على دين خير من دينه حيث ساقته قدماه ـ عن قصد أو غير قصد ـ إلى الكنيسة ، فرأى فيها أناساً يصلون ، وربما يرتلون فصلاً من الإنجيل بصوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب فيه رجع وصدىً لترانيم الراهب الحزين الذي يبكي المسيح ! ولا بد أن فقرات من الإنجيل شدته ـ في تلك اللحظات الغامرة ـ إلى الاستغراق والتأمل في عالم اللاهوت ضمن أجواء هي مزيج من الحزن ، والفرح ، والسأم ، واللذة ، طافت به ما وراء الغيب ، ثم انتهت لتوقظ في نفسه مكامن الألم الطويل الذي عاناه في ظل أبيه .

دارت في رأس سلمان زوبعة من التفكير . . انها فرصة قيضتها له يد الغيب ، وما عليه الآن إلا أن يختار . نعم ؛ لقد أعجبه هذا الدين ، ولكن ؛ هل ينتهي به المطاف إلى هنا فتكون هذه الكنيسة هي المحطة الأولى والأخيرة في حياته ؟ ومن يدري ، فلعل يد التشويه قد امتدت إليها أو إلى ذلك الكتاب الذي يتلى فيها فأخرجتهما عن مسارهما الصحيح ، وعندها فما الفائدة إذن ؟ أيترك دين آبائه وأجداده ليعتنق ديناً ربما كان مثله في المحتوى أو أميز منه بقليل ؟

٢٠