لأبي حنيفة : « أيّما أعظم عند اللّه القتل أو الزنا؟ قال : بل القتل ، فقال عليهالسلام : فكيف رضى فى القتل بشاهدين ولم يرض فى الزنا إلاّ بأربعة؟ ثمّ قال له : الصلاة أفضل أم الصيام؟ قال : بل الصلاة أفضل ، قال عليهالسلام : فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة فى حال حيضها دون الصيام وقد أوجب اللّه عليها قضاء الصوم دون الصلاة. ثمّ قال له : البول أقذر أم المني؟ فقال : البول أقذر ، فقال : يجب على قياسك أن يجب الغُسل من البول دون المنى وقد أوجب اللّه تعالى الغُسل من المنى دون البول ... الى أن قال عليهالسلام : تزعم انّك تفتى بكتاب اللّه ولست ممن ورثه وتزعم انّك صاحب قياس واوّل من قاس إبليس ولم يُبْنَ دين اللّه على القياس » (١).
اَوَ ليس من الحق بعد هذا أن يقول الإمام الصادق عليهالسلام فى حق الحكم بن عتيبة : « فليشرِّق الحَكَمُ وليغرِّب ، أما واللّه لايصيب العلم إلاّ من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل » (٢).
أهل البيت امتداد لسنَّة الرسول صلىاللهعليهوآله
هناك سؤال يخطر الى الذهن : كيف اكتفت مدرسة أهل البيت بسنّة الرسول صلىاللهعليهوآله والحال انّ أغلب الأئمة الطاهرين من ذريّته لم يعاصروه؟
فى هذا المجال يمكن أن يجاب بأنَّ أهل البيت عليهمالسلام قد توارثوا ما عند جدِّهم الرسول الاعظم صلىاللهعليهوآله من علوم وكانوا يتناقلون ذلك فيما بينهم صدرا عن صدر فكان لديهم :
أ ـ كتاب عليّ الّذى هو من إملاء رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وخط أمير المؤمنين عليهالسلام ، فعن
__________________
١ ـ وسائل الشيعة : باب ٦ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢٨.
٢ ـ وسائل الشيعة : باب ٧ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢٣.
عذافر الصيرفي : « كنت مع الحَكَم بن عتيبة عند أبى جعفر الباقر عليهالسلام فجعل يسأله الحَكَم وكان أبوجعفر له مُكرِما ، فاختلفا فى شيء ، فقال أبوجعفر : يا بُنيّ! قم فأخرِج كتاب على عليهالسلام فأخرَج كتابا مدرجا عظيما ، ففتحه وجعل ينظر فيه حتى أخرج المسألة ، فقال أبوجعفر عليهالسلام : هذا خطّ عليّ وإملاء رسول اللّه صلىاللهعليهوآله . وأقبل على الحكم وقال : يا أبامحمد! اذهب أنت وسلمة وأبوالمقدام حيث شئتم يمينا وشمالاً ، فواللّه لاتجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل » (١).
ب ـ والجامعة ، ففى صحيحة أبى بصير : « دخلت على أبى عبداللّه عليهالسلام فقلت له : جعلت فداك إنّى أسألك عن مسألة ، ههنا أحد يسمع كلامي؟ قال : فرفع أبو عبداللّه عليهالسلام سترا بينه وبين بيت آخر ، فاطلع فيه ، ثمّ قال : يا أبا محمد! سلْ عمّا بدا لك. قال قلت : جعلت فداك إنَّ شيعتك يتحدّثون أنَّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله علّم عليّا عليهالسلام باباً يفتح له منه ألف باب ، قال : فقال : يا أبامحمد! علّم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عليّا عليهالسلام ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب. قال : قلت : هذا واللّه العلم ، قال : فنكت ساعة فى الأرض ، ثمّ قال : إنّه لعلم وما هو بذاك.
ثمّ قال : يا أبامحمد! وإنّ عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة؟ قال : قلت : جعلت فداك وما الجامعة؟ قال : صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وإملائه من فلق فيه وخطّ عليّ بيمينه ، فيها كلّ حلال وحرام وكلّ شيء يحتاج الناس اليه حتى الأرش فى الخدش وضرب بيده إليّ فقال : تأذن لى يا أبامحمد؟ قال : قلت : جعلت فداك إنّما أنا لك فاصنع ما شئت ، قال : فغمزنى بيده وقال : حتى أرش هذا ، كأنه مغضب ... » (٢).
__________________
١ ـ رجال النجاشي : ترجمة محمدبن عذافر.
٢ ـ اصول الكافي : ١ / ٢٣٩.
ج ـ والجفر ، وقد أشار اليه الإمام الصادق عليهالسلام فى الصحيحة المتقدمّة بقوله : « وإنَّ عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر؟ قال : قلت : وما الجفر؟ قال : وعاء من أدم فيه علم النبيّين والوصيّين وعلم العلماء الّذين مضوا من بنى اسرائيل ... » (١).
د ـ ومصحف فاطمة عليهاالسلام ، وقد أشارت له صحيحة أبي عبيدة حينما سأل بعض الأصحاب الإمام الصادق عليهالسلام عنه ، فقال عليهالسلام : « إنَّكم لتبحثون عمّا تريدون وعمّا لاتريدون. إنَّ فاطمة مكثت بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله خمسة وسبعين يوما وكان دخلها حزن شديد على أبيها وكان جبرئيل عليهالسلام يأتيها ، فيحسن عزائها على أبيها ويطيّب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعدها فى ذرّيَّتها وكان على عليهالسلام يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة عليهاالسلام » (٢).
هذا كلّه ، بالإضافة إلى الوسائل الغيبية الّتى كان يزوّد اللّه تبارك وتعالى بها أئمّة أهل البيت عليهمالسلام بما يشاء من العلم ، ففى غير واحد من الأخبار : لولا أنّهم عليهمالسلام يزدادون لنفد ما عندهم(٣). كما أنّ فى غير واحد من الأخبار أيضاً : إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه اللّه ذلك(٤).
وبهذا يتَّضح الجواب عن تساؤل آخر وهو : كيف يحصل العلم للأئمّة من أهل البيت عليهمالسلام وكيف يتداولونه؟ إنَّ الوسيلة المهمّة لذلك بالإضافة إلى الوسائل الغيبية هى تداول الكتب السابقة. وفى حديث سليم بن قيس : « شهدت وصيّة أميرالمؤمنين عليهالسلام حين أوصى الى ابنه الحسن عليهالسلام واشهد على وصيَّته الحسين عليهالسلام
__________________
١ ـ اصول الكافي : ١ / ٢٣٩.
٢ـ اصول الكافي : ١ / ٢٤١.
٣ ـ اصول الكافي : ١ / ٢٥٤.
٤ ـ اصول الكافي : ١ / ٢٥٨.
ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال لإبنه الحسن عليهالسلام : يا بُنيّ! أمرنى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أن اُوصى إليك وأن ادفع اليك كتبى وسلاحى كما أوصى إليّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ودفع إليّ كتبه وسلاحه وأمرنى أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين عليهالسلام. ثم أقبل على ابنه الحسين عليهالسلام فقال : وأمرك رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أن تدفعها الى ابنك هذا ثمّ أخذ بيد على بن الحسين عليهالسلام ، ثمّ قال لعلى بن الحسين : وأمرك رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أن تدفعها الى ابنك محمد بن على وأقرأه من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ومنّى السلام » (١).
مصادر التشريع فى فقه أهل البيت عليهمالسلام
وقد تجلّى ممّا سبق أنَّ مصادر التشريع التى يمكن الاستناد اليها فى فقه أهل البيت عليهمالسلام إثنان : « الكتاب الكريم » و « السنَّة الشريفة ».
وأمّا الإجماع ، فعدُّه مصدرا مستقلاً مبنيّ على المسامحة ، لأنّه بما هو إجماع ومن دون كاشفيّته عن موافقة المعصوم عليهالسلام ليست له قيمة فى نظرنا ، ولانسلم بالمقالة القائلة : « لا تجتمع اُمتى على ضلال ». فالقيمة على هذا الأساس للسنّة ، أى لرأى المعصوم عليهالسلام المنكشف بالإجماع ، ودور الإجماع ليس إلاّ دور الكاشف عن السنّة.
وأمّا العقل ، فليس له حقّ التشريع ولا معنى لأن يحصل له القطع بحرمة شيء أو وجوبه ، إذ ليس له طريق لإدراك ملاكات الأحكام. أجل يمكن أن يحصل له القطع فى موردين :
أ ـ باب الملازمة ، كأن يقطع بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو
__________________
١ ـ اصول الكافي : ١ / ٢٩٧.
حرمة ضدّه. ومتعلّق القطع فى هذا هو الملازمة دون الحكم. وبضمّ القطع المذكور الى حكم الشارع بوجوب شي ء معيّن يستكشف أنّ الشارع قد حكم بوجوب المقدّمة أو حرمة الضدّ.
ب ـ الأحكام البديهيّة الواضحة كوجوب العدل وحرمة الظلم مثلاً ، ولكن فى هذين الحكمين وما شابههما توجد أدلة شرعيّة تدلّ على ذلك ولايكون عدُّ العقل مصدرا من مصادر التشريع بعد هذا قضيّةً فنّية.
ونؤكّد : إنّ دور العقل فى الموردين المذكورين ـ الملازمة والأحكام البديهيّة ـ دور المدرك والمستكشف دون المؤسّس والحاكم ، إذ ليس من حقّه ذلك.
وإذا سألت عن السيرة هلاّ يصلح عدُّها مصدرا من مصادر التشريع؟ كلاّ لايمكن ذلك ، لأنّ حجيّتها تنبع من كاشفيّتها عن رأى المعصوم عليهالسلام الّذى هو السنّة وإلاّ فهى لا قيمة لها.
أمّا كيف تكشف السيرة عن موافقة المعصوم عليهالسلام؟ ذلك لأنّها إذا كانت عقلائية ومعاصرة لزمن المعصوم عليهالسلام فعدم الردع عنها يدلّ على امضائها ، وإذا كانت متشرعية ومتصلة بزمن المعصوم عليهالسلام فهى تكشف مباشرة عن موافقته وإلاّ لم تكن سيرة متشرعة(١).
وأمّا الاستصحاب وبقية الاُصول العملية ، فهى قواعد عامّة مستفادة من السنّة وليست شيئا مستقلاً فى مقابلها.
__________________
١ ـ تجد تفصيل البحث حول السيرة في : دروس فى علم الاصول ، الحلقة الثانية ، ص ١٣٧ ـ ١٤٠ و ١٥٣ ـ ١٥٩ ، ط مجمع الفكر الاسلامي.
مستندات حقّانيّة مدرسة أهل البيت عليهمالسلام
وقد يخطر للذهن التساؤل عن الوجه فى حقّانيّة مدرسة أهل البيت عليهمالسلام وبالأحري : ما هو الوجه فى حجية حكم الإمام الصادق عليهالسلام وغيره من أئمة أهل البيت عليهمالسلام حينما يحصل ذلك منهم فى مختلف القضايا الفقهيّه؟ المستندات كثيرة نشير الى بعضها باختصار.
١ ـ آية التطهير : ( إنّما يُريدُ اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهِّركُم تطهيراً ) (١) ، فإنَّ المراد من أهل البيت أصحاب الكساء الخمسة : محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم ـ فقد ذكر الهيثمى فى صواعقه أنّ : « اكثر المفسّرين على أنَّها نزلت فى على وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير ـ عنكم ـ وما بعده » (٢).
وإذا رجعنا الى الروايات المفسّرة للآية الكريمة وجدنا انّها تُفَسِّر أهل البيت باصحاب الكساء الخمسة وأنّ عددها من غير الشيعة أكثر ممّا ورد من طرقهم.
وكمثال لذلك : روى احمد فى مسنده عن امّ سلمة : « أنَّ النبى صلىاللهعليهوآله كان فى بيتها ، فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة ، فدخلت بها عليه ، فقال لها : ادعى زوجك وابنيك ، قالت : فجاء على والحسن والحسين ، فدخلوا عليه ، فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو على منامة له على دكان (٣) تحته كساء له خيبري. قالت : وأنا اُصلّى فى الحجرة ، فأنزل اللّه هذه الآية ( إنّما يُريدُ اللّه ليُذهبَ عنكم الرجس أهل البيت ويُطهِّركم تطهيراً
__________________
١ـ الاحزاب : ٣٣.
٢ ـ الصواعق المحرقة : ١٤١.
٣ ـ البُرمة : قدر من حجر. والحريرة : الدقيق مطبوخ بلبن. والدكان : مرتفع يجلس أوينام عليه والكساء : الثوب.
) قالت : فأخذ فضل الكساء فغشاهم به ، ثمّ أخرج يده فألوى بها الى السماء ، ثمّ قال : اللّهم هؤلاء أهل بيتى وخاصَّتى فأذهِب عنهم الرجس وطَهِّرهم تطهيراً. قالت : فأدخلت رأسى البيت فقلت : وأنا معكم يا رسول اللّه؟ قال : إنَّكِ إلى خير ، إنَّكِ الى خير » (١).
٢ ـ حديث الثقلين : الصادر من النبى صلىاللهعليهوآله فى مواطن متعدّدة وبأسانيد متعدّدة من غير الشيعة.
وعلى سبيل المثال روى الحاكم النيسابورى باسناده عن زيد بن أرقم : « لمّا رجع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله من حَجَّة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ، فقال : كأنى قد دُعيت فاجبت. إنّى قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه تعالى وعترتي ، فانظروا كيف تخلفونى فيها ، فانَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. ثمّ قال : إنَّ اللّه عزّوجل مولاى وأنا مولى كلّ مؤمن. ثم أخذ بيد على ـ رض ـ فقال صلىاللهعليهوآله : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه » (٢).
والحديث يستفاد منه اعلميّة أهل البيت عليهمالسلام بالكتاب الكريم من غيرهم لقرنهم به ، وإنَّ التمسك بالكتاب والعترة يمنع من الوقوع فى الضلالة ، وإنَّ الابتعاد عنهم والتقدّم عليهم حرام ، لأنّه يوقع فى الهلاك ، وهذا يعنى بعبارة ثانية حصر الإمامة فيهم. كما ويستفاد منه رابعا عدم انحراف العترة يوما ما عن الكتاب الكريم بل ذلك باقٍ الى يوم القيامة.
٣ ـ حديث السفينة : المروى بطرق متعددة. وكمثال عليذلك : ذكرابن حجرالهيثمي :
__________________
١ ـ مسند احمد : ٦ / ٢٩٢.
٢ ـ مستدرك الحاكم : ٣ / ١٠٩.
« جاء من طرق عديدة يقوّى بعضها بعضا : إنّما مثل أهل بيتى فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا. وفى رواية مسلم : ومن تخلّف عنها غرق ... ». (١) والدلالة واضحة.
٤ ـ حديث الأمان : المروى بطرق متعدّدة أيضا. وكمثال على ذلك : روى الحاكم النيسابورى عن ابن عباس أنَّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتى أمان لأمّتى من الاختلاف ، فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس ». (٢) والدلالة واضحة.
٥ ـ حديث الاثنى عشر : المروى بطرق متعدّدة أيضاً. وكمثال على ذلك : روى مسلم فى صحيحه عن جابر بن سمرة : « دخلت مع أبى على النبى صلىاللهعليهوآله فسمعته يقول : إنّ هذا الأمر لاينقضى حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة. ثمّ تكلّم بكلام خَفِيَ عليَّ. قال فقلت لأبي : ما قال؟ قال : كلّهم من قريش ». وقد رواه بسبع طرق. (٣)
ودلالة الحديث واضحة حيث لايلتئم مضمونه إلاّ على مبنى الإماميَّة.
الأدوار الثلاثة لفقه أهل البيت عليهمالسلام
والنقطة المهمة فى هذا البحث ملاحظة ما مرّ به فقه أهل البيت عليهمالسلام من أدوار ويمكن أن نعدّها ثلاثة ، ملاحظين فى تقسيمنا لذلك الظواهر البارزة لما مرّ به الفقه فى كلّ دور.
* الدور الأوّل :
وهو دور الرواة من صحابة الائمة عليهمالسلام ـ ويبتدأ من الايّام الاولى للتشريع
__________________
١ ـ الصواعق المحرقة : ١٥٠.
٢ ـ مستدرك الحاكم : ٣ / ١٤٩.
٣ ـ صحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب ١ « باب الناس تبع لقريش والخلافة فى قريش » ، حديث ٥.
الاسلامى وحتى بداية الغيبة الصغرى سنه ٢٦٠ هـ.
والظاهرة البارزة والمشتركة فى هذا الدور أنَّ الفقه كان يعيش حالة تدوين الروايات وبشكل متناثر لا اكثر ، فالاصحاب كانوا يسمعون الأحاديث من المعصومين عليهمالسلام ويسجّلونها فى مدوّناتهم بشكل غير مبوّب ، فكل ما يسمع يسجّل فى أوراق خاصة ، فرب حديث يسمع فى باب الطهارة الى ثان فى باب النكاح الى ثالث فى باب الديات ، والكل يسجّل فى مكان واحد من دون استيعاب للابواب الفقهية ولا تبويب لها بل هى اشبه بالمذكّرات الشخصية الخاصة.
ولعل اول مدوَّنة ـ بعد استثناء ما كتبه اميرالمؤمنين عليهالسلام المعروف بكتاب على وما شاكله من الجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليهاالسلام مما تقدّمت الاشارة له سابقا ـ هى مدوَّنة ابى رافع صاحب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله واميرالمؤمنين عليهالسلام الذى دخل يوما على النبى صلىاللهعليهوآله وهو نائم او يوحى اليه ، ورأى حية فى جانب البيت ، فكره ان يقتلها خوفا ان يستيقظ صلىاللهعليهوآله فنام بينه وبينها كى اذا كان منها سوء توجّه اليه دون النبى صلىاللهعليهوآله ، ان هذا الرجل على ما ذكر النجاشى له كتاب باسم كتاب السنن والاحكام والقضايا(١).
ولابنه المسمّى بعلى بن ابى رافع الكاتب لاميرالمؤمنين عليهالسلام كتاب فى فنون من الفقه كالوضوء والصلاة وسائر الابواب.
وتوالت المدوَّنات الفقهية وبلغت الذروة فى عهد الإمامين الباقر والصادق عليهماالسلام حيث سنحت لهما الفُرصة ـ بسبب ضعف السلطة الاموية اواخر ايامها وانتقالها الى السلطة العباسية ـ ببثِّ الكثير من علومهما وتدوين خيار الصحابة من الشيعة لها فى مذكّراتهم الشخصية.
__________________
١ ـ رجال النجاشي : ترجمة أبى رافع.
وبلغت تلك المدوّنات حسب عمليّة الاحصاء التى قام بها الحر العاملى (٦٦٠٠) كتاب(١) الا أنّ الذى اشتهر من بين هذه الكتب (٤٠٠) كتاب وهى المعروفة بالأصول الأربعمائة التى نتجت منها بعد ذلك الكتب الأربعة للمحمَّدين الثلاثة(٢).
يقول ابن حجر عن الإمام الصادق عليهالسلام : « ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته فى جميع البلدان. وروى عنه الائمة الاكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح وما لك والسفيانين وابى حنيفة وشعبة وأيّوب السجستاني » (٣).
وكان المركز العلمى لمدرسة أهل البيت عليهمالسلام تلك الفترة هى المدينة المنورة فهى العاصمة لعلومهم وروّادها.
وفى هذه الأثناء انتقل الامام الصادق عليهالسلام الى الكوفة ـ المركز العلمى الثانى لمدرسة أهل البيت عليهمالسلام ـ أيّام ابى العباس السفاح واستمر فيها فترة سنتين واشتغل عليهالسلام فى نشر علومه وافكار مدرسته لضعف السلطة آنذاك بسبب انتقالها من الاُمويين الى العباسيين. وكان منزله عليهالسلام فى الكوفة فى بنى عبد القيس(٤).
ويحدث الحسن بن على الوشاء : « إنّى أدركت فى هذا المسجد ـ مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلٌ يقول حدَّثنى جعفر بن محمد عليهالسلام » (٥).
ويحدِّث محمد بن معروف : مضيت الى الحيرة الى جعفر بن محمد عليهالسلام فما كان
__________________
١ ـ وسائل الشيعة : آخر الفائدة الرابعة من الفوائد المذكورة فى الخاتمة.
٢ ـ وهم : محمد بن يعقوب الكلينى صاحب كتاب الكافي ، ومحمد بن على بن الحسين الصدوق صاحب كتاب من لايحضره الفقيه ، ومحمد بن الحسن الطوسى صاحب كتاب التهذيب والاستبصار رحمهم الله.
٣ ـ الصواعق المحرقة : ١٩٩.
٤ـ تاريخ الكوفة للبراقي : ٤٠٨.
٥ ـ رجال النجاشي : ترجمه الوشاء.
لى فيه حيلة من كثرة الناس ، فلما كان اليوم الرابع رآنى فادنانى وتفرّق الناس عنه ومضى يريد قبر امير المؤمنين عليهالسلام فتبعته وكنت اسمع كلامه وانا معه امشي.
وإلى هذه الفترة يشير الحديث الوارد عن الامام الصادق عليهالسلام « دخلت على ابى العباس بالحيرة ، فقال : يا أبا عبداللّه ، ما تقول فى الصيام اليوم؟ فقال : ذاك إلى الإمام ، إن صُمتَ صُمنا وإن افطرتَ افطرنا ... » (١).
وكان كبار اصحاب الإمام عليهالسلام من الكوفة كأبان بن تغلب الذى روى عنه (٠٠٠/٣٠) حديثا ومحمد بن مسلم الذى روى (٠٠٠/٤٠) حديثا.
وقد حاول الحافظ ابو العباس بن عقدة الهمدانى الكوفى جمع أسماء من روى عن الإمام الصادق عليهالسلام فى كتاب فكان عددهم (٤٠٠٠) رجل. وقد نقل من ذلك الكتاب الشيخ الطوسى والنجاشى فى فهرستهما الشيء الكثير.
وبعد هذا فليس من الغريب اذا ما سمعنا الذهبى يقول :
« فهذا ـ التشيّع ـ كثر فى التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو ردّ حديث هؤلاء ـ أى الشيعة ـ لذهب جملة الآثار النبويّة » (٢).
ونحن حينما ذكرنا أنّ الظاهرة البارزة والمشتركة لهذا الدور ، تولد فقه أهل البيت عليهمالسلام على مستوى تدوين الأحاديث وبشكل متناثر وبدون استيعاب؛ فهذا لايعنى عدم اشتماله على فقهاء كبار يشكّل كلّ واحد منهم فى نفسه بحرا متلاطما كمحمّد بن مسلم وزرارة بن اعين وابى بصير الذين قال عنهم الإمام الصادق عليهالسلام :
__________________
١ ـ وسائل الشيعة : باب ٥٧ من ابواب ما يمسك عنه الصائم ، حديث ٥.
ولايخفى انّ الكبرى المذكورة فى الرواية وإن كانت جدية الاّ انّ التطبيق صادر تقيةً.
٢ـ ميزان الاعتدال : ١ / ٥.
« بشّر المخبتين بالجنة : بريد بن معاوية العجلى وأبابصير ليث البُخترى المرادى ومحمد بن مسلم وزرارة أربعة نجباء أمناء اللّه على حلاله وحرامه لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست » (١).
بل كانوا بمستويً يرى فيهم الإمام عليهالسلام الاجتهاد والقدرة على الاستنباط ولذا تارةً امرهم بممارسة ذلك فعلاً حيث قال عليهالسلام : « إنّما علينا أن نلقى اليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا » (٢).
واُخرى يحصل منهم مراجع فى الأحكام كيونس بن عبد الرحمان حيث قيل للامام عليهالسلام إنّي : « لا اكاد اصل اليك اسألك عن كل ما احتاج اليه من معالم دينى أفيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه ما احتاج اليه من معالم دينى فقال : نعم » (٣).
وثالثة يأمرهم بالإفتاء كأبان بن تغلب حيث قال له الامام عليهالسلام : « اجلس فى مسجد المدينة وأفت الناس فإنّى اُحبّ ان يُرى فى شيعتى مثلك » (٤).
ويدخل على الامام الصادق عليهالسلام مرّة فلمّا يبصر به يصافحه ويعانقه ويرحّب به ويأمر له بوسادة. وكان إذا قدم المدينة تتقوض له الخلق وتُخلى له سارية النبى صلىاللهعليهوآله (٥).
اَوَ ليس من المناسب بعد هذا حينما يصل نعيه الى الامام عليهالسلام يقول : « واللّه لقد أوجع قلبى موت أبان » (٦).
__________________
١ ـ رجال الكشّي : ترجمة أبي بصير ليث المرادي.
٢ ـ وسائل الشيعة : باب ٦ من ابواب صفات القاضي ، حديث ٥١.
٣ ـ وسائل الشيعة : باب ١١ من ابواب صفات القاضي ، حديث ٣٣.
٤ ـ رجال النجاشي : ترجمة أبان.
٥ ـ نفس المصدر.
٦ ـ نفس المصدر.
* الدور الثاني :
ويبدأ هذا الدور من بداية الغيبة الصغرى سنه ٢٦٠ ه وحتى فترة زعامة الشيخ الطوسى المولود سنة ٣٨٥ هـ والمتوفّى سنة ٤٦٠ ه.
والظاهرة البارزة والمشتركة فى هذا الدور انتقال فقه أهل البيت عليهمالسلام من كونه مجرد روايات مسجّلة ومن دون تبويب الى عرضه كمتون فقهية لا تتجاوز حدود ما هو الموجود فى الروايات كمّا ولايتعدّى الفاظها ، كما نرى هذا واضحا فى شرايع على بن بابويه التى هى رسالته إلى ولده محمد والتى قيل عنها أنّ الاصحاب كانوا متى ما اعوزتهم النصوص اخذوا بشرايع على بن بابويه.
ومن أمثلة ذلك ايضا كتابا « المقنع » و « الهداية » للشيخ الصدوق محمد بن على بن بابويه ، وكتاب « النهاية » للشيخ الطوسي.
ولا نعدم فى هذه الفترة اعلاما اقتصروا فى عرض الفقه على تدوين الروايات فقط إلا أنَّ عرضهم كان مبوبا وشاملاً لجميع ابواب الفقه ، كما نرى ذلك واضحا فى الكافى للشيخ الكلينى ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق.
هذا هو الطابع العام فى الدور المذكور ولكن هذا لا يعنى عدم وجود أعلام تجاوزوا نطاق النصوص وتعدّوا عنها محاولين بذلك التمسّك بالإستدلالات العقلية ايضا كما هو الحال بالنسبة الى العمّانى والاسكافي.
واذا اردنا التوضيح اكثر ، امكن أن نقول : ان هذا الدور ضَمَّ ثلاث مدارس بارزة :
أ ـ مدرسة « قم » و « الري » ؛ وكانت هذه المدرسة تحاول التمسك بالنصوص وعدم التعدى عنها إلى الإستدلالات العقلية. ومن جملة أعلام هذه المدرسة الصدوقان (الاب والابن) وابن قولويه. وكانت هذه المدرسة قوّية ومورد اعتماد
الاصحاب حتى أنَّ سفير الناحية المقدسة الشيخ النوبختى الحسين بن روح يرسل كتاب التأديب الى قم ويكتب إلى جماعة الفقهاء بها : « انظروا ما فى هذا الكتاب وانظروا فيه شيء يخالفكم ». (١)
ب ـ مدرسة العمانى والاسكافي؛ وكانت هذه تحاول التمسك بالاستدلالات الاصولية العقلية حتى أنّه قد ينسب اليها العمل بالقياس والرأي.
والعمانى هو الحسن بن على بن ابى عقيل الذى انتهت اليه الزعامة الدينية الشيعية بعد انتهاء فترة الغيبة الصغري.
وقيل : إنَّه أوّل من أدخل الإجتهاد بشكله المعروف الى الأبحاث العلمية واخذ بتحرير الفروع الفقهية وذكر الادلة لها والَّف كتابه المعروف بـ « المستمسك بحبل آل الرسول » الذى قال عنه النجاشي :
« كتاب مشهور فى الطائفة. وقيل ما ورد الحاج من خراسان الا طلب واشترى منه نسخا ، وسمعت شيخنا أباعبدالله رحمهالله يكثر الثناء على هذا الرجل رحمهالله ». (٢)
ومع الأسف لم يبق لهذا الكتاب يومنا هذا عين ولا اثر.
والإسكافى هو محمد بن احمد بن الجنيد الذى انتهت اليه شيخوخة المذهب بعد ابن ابى عقيل والفّ كتابين فقهيّين : احدهما باسم « تهذيب الشيعة لاحكام الشريعة » والاخر باسم « الأحمدى فى الفقه المحمدي ». ولا اثر لهذين الكتابين يومنا هذا ايضاً.
__________________
١ ـ الغيبة للشيخ الطوسي : ٢٤٠.
٢ ـ رجال النجاشي : ترجمة الحسن بن على بن ابى عقيل.
ج ـ مدرسة بغداد أو بالأحرى مدرسة الشيخ المفيد وتلاميذه التى حاولت أن تجمع بن الاتّجاهين : التمسك بالنصوص والإستدلالات العقلية. ولعل السبب فى ذلك يعود الى تتلمذ الشيخ المفيد على روّاد كلتا المدرستين السابقتين ، فهو من تلامذة ابن الجنيد صاحب المدرسة السابقة وجعفر بن محمد بن قولويه الذى هو من قم ومن روّاد مدرستها.
وللشيخ المفيد عدّة مؤلفات : منها « المقنعة » التى شرحها الشيخ الطوسى فى كتاب باسم « تهذيب الأحكام ».
* الدور الثالث :
ويبتدأ هذا الدور من فترة زعامة الشيخ الطوسى وإلى الفترة الحاضرة. والظاهرة البارزة فى هذا الدور تحول الفقه من تدوينه كمتون فقهية موافقة للنصوص فى الفاظها إلى التدوين بلا تقيّد بالفاظها ومع التعدى بذكر تفريعات جديدة لا وجود لها فيها ، كل ذلك مع الإستدلال المتكامل بالنصوص والقواعد الأصولية العقلية.
واول ما وصل بايدينا من نتاج هذا الدور كتاب المبسوط للشيخ الطوسى قدسسره.
وهو فى مقدمة الكتاب قد اشار الى ذلك وأنَّ المخالفين لازالوا يستخفون بنا وينسبون لنا قلّة التفريعات والمسائل مدَّعين أنَّ من لايعمل بالقياس والاجتهاد ليس باستطاعته تكثير المسائل والتفريع على الأصول. ثم أضاف قائلاً : « وكنت من قديم الزمان متشوقا الى ذلك ولكن يعوقنى قلّة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به ، لأنهم الّفوا الاخبار وما رووه من صريح الألفاظ حتى ان مسألة لو غيّر لفظها وعُبِّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها ». ثم قال : « وإنّى كنت قد الَّفت النهاية بالالفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من ذلك »
انتهى ما افاده قدسسره.
وهو يدلّ بوضوح على النقلة العظيمة التى قام بها الشيخ من الدور الثانى الى الثالث.
وينبغى ان يكون واضحا انا حينما نعدُّ الفترة المذكورة دورا واحدا فهذا لا يعنى انعدام الظواهر المختلفة فيها ، كيف والشيخ بعد أن قام بإعباء هذا التحول وشيَّد اركان مدرسته المباركة فى النجف الأشرف الّتى ارتحل اليها بعد هروبه من بغداد اصاب نهضته العلمية هذا شيء من الركود بعد التحاقه بالرفيق الأعلى بحيث كل من جاء بعده انبهر بعظمته ولم يستطع الوقوف امامه ومناقشة آراءه العلمية ، الفترة التى يصفها ابن ادريس بـ « فترة المقلدة » ولم يستطع القضاء عليها الا هو ، حيث وقف مناقشا لآراء الشيخ العلمية وكسر نطاق الخوف إلا أنَّ هذا لا يعنى حصول تغيّر فى جوهر الدور الذى قام به الشيخ بل إنَّ الطريقة التى قام بها فى مبسوطه باقية إلى يومنا هذا وإن حصلت بعض التغيرات الجانبية.
ولا تفوتنا الإشارة الى ظاهرة الإجماع ، فإنَّ الإجماع كدليل إلى جانب بقيَّة الأدّلة برز لدى غير الشيعة بعد وفاة النبى صلىاللهعليهوآله دعما لبعض المواقف التى حصلت فى تلك الفترة وبقى مختصا بهم إلى فترة الشيخ الطوسى واستاذه المرتضى حيث برز لدى الشيعة كدليل يتمسك به واخذوا يستدلّون على حجيته بطريقة اللطف او غيرها حتى انتهت النوبة إلى المحقق التستري ، فألّف كتابا خاصا بذلك باسم كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع.
وبقى الإجماع دليلاً يتمسّك به فيما بعد فى كلمات المحقق والعلاّمة والشهيدين ولم يكتف وحده بالبروز فى ميدان الإستدلال حتى انضمّت اليه الشهرة الفتوائية ، فكثيرا ما يستدلّ بالإجماع المنقول والشهرة المحققة. الا انه فى الآونة الأخيرة لم
تبق قيمة معتدٌّ بها لهذين الدليلين وعوّض عنهما بالإرتكاز وسيرة المتشرعة وسيرة العقلاء او ان المسألة ابتلائيَّة ، فلو كان فيها حكم اخر لاشتهر وذاع وما شاكل ذلك.
ولا يفوتنا ان نسجّل لمثل المحقق الحلى ما قام به من خدمة جليلة فى تأليف كتابه المشهور بـ « شرايع الاسلام » حيث قسم ابواب الفقه الى تقسيم رباعى معروف استمرّت روحه الى وقتنا الحاضر. كما وان المنهجة التى قام بها فى كتابه عند بحثه لكلّ باب والإشارة الى الاقسام بالأرقام وتشقيق كل قسم الى شقوق أخرى بارقام اخرى مضبوطة كل ذلك فضل لا يُنسي.
وهكذا ما قام به العلاّمة من ادخال الرياضيات فى علم الفقه او اجراء ابحاث فقهية مقارنة بين المذاهب جهود مشكورة وثمينة وليس من الانصاف تناسيها.
أجل الذى أراه ـ إن لم أكن مخطئا ـ إنَّ كثيرا من وجوه الإستدلال التى كان يتمسّك بها مثل الشيخ وصاحب السرائر والعلامة و ... اصبحت يومنا هذا أشبه بالاستحسانات منها بالأدلة العلمية ونظرة سريعة على فقه القدماء توضّح بشكل جلى ما نقول.
ولا ننسى أن نشير ايضاً إلى أنَّ الابحاث السندية والتدقيق من الزاوية المذكورة ظلَّ مهملاً فى كلمات القدماء بل وإلى يومنا المعاصر تقريبا ، فهذا مكاسب الشيخ الأعظم مثلاً لا نجد مثل ذلك فيه.
والنتيجة التى يمكن ان ننتهى اليها ان روح الدور الثالث بقيت على ما هى عليها الى يومنا المعاصر. ولئن حصل هناك تطوّر ، فهو فى مسائل جانبية من قبيل :
أ ـ منهجة الأبحاث بشكل اكثر فنية.
ب ـ التعرّض الى فروع اكثر واوسع تبعا للمرحلة الزمنيّة.
ح ـ التعويض بأشكال من الإستدلال اكثر متانة وقوة.
د ـ محاولة ربط المسائل الفقهية بالمسائل الاصولية بدرجة اكبر.
هـ ـ محاولة الاهتمام بالأبحاث السندية بدرجة اقوي.
و ـ اهمال بعض التفريعات القديمة لفقدان الحاجة اليها والتعويض عنها بتفريعات جديدة ، تبعا للحاجة الزمنية.
منهجة الأبواب الفقهية
قسَّم المحقق الحلى فى شرائعه الأبواب الفقهية إلى أربعة أقسام : عبادات وعقود وإيقاعات وأحكام.
ووجه ذلك على ما ذكره الشهيد الأول : ان الغاية من الحكم إذا كانت مرتبطة بالآخرة فذاك مورد العبادات.
وان كانت مرتبطة بالدنيا فتارة يحتاج تحققها إلى إيجاب وقبول ، وأخرى إلى إيجاب فقط ، وثالثة لا يحتاج إلى شيء من ذلك.
والأول مورد العقود ، والثانى مورد الإيقاعات ، والثالث مورد الأحكام(١).
وهو ان كان بحاجة إلى إصلاح ليبرز دور التشريع الاسلامى فى مجالاته بشكل أكثر فنية إلا انّا نترك ذلك إلى مستوى أعلى من البحث ونسير فى عرضنا للأبواب الفقهية على ضوء التقسيم المتوارث.
نسأل الله سبحانه ان يوفقنا لخدمة دينه الحنيف وان يهدينا الى تطوير الفقه الاسلامى بالشكل المناسب إنَّه خير سميع ومجيب.
__________________
١ ـ القواعد والفوائد : ١ / ٣٠.
كتاب الطّهارة
١ ـ أقسام المياه وأحكامها
٢ ـ أحكام التخلي
٣ ـ الوضوء
٤ ـ الغسل
٥ ـ التيمم
٦ ـ النجاسات
٧ ـ المطهّرات