متشابه القرآن ومختلفه - ج ١

أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني

متشابه القرآن ومختلفه - ج ١

المؤلف:

أبو جعفر محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات بيدار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) والصلاة على محمد وآله الطاهرين

قال محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني رضي الله عنه سألتم وفقكم الله للخيرات إملاء كتاب في بيان المشكلات من الآيات المتشابهات وما اختلف العلماء فيه من حكم الآيات ولعمري إن لهذا التحقيق بحرا عميقا ولا يكاد يوجد منه إلا ألفاظ في كتب كبار المتكلمين أو نكت في بعض تفاسير المحققين العدليين وقلما يحضر ذلك للطالبين فأجبتكم إلى ذلك مع تقسم الفكر وضيق الصدر وشغل القلب ووعثاء السفر وفقدان الكتب فمنها ما ابتدأناه ومنها ما سبقنا إليه فحررناه ومنها ما وجدناه مختلا فحققناه والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه وقال ابن عباس المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ وقال مجاهد المحكم ما لم يشتبه معناه والمتشابه ما اشتبهت معانيه وقال الجبائي المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا وقال جابر المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله وقيل ما لا ينتظم لفظه مع معناه إلا بزيادة أو حذف أو نقل وسمي متشابها لأنه يشبه المحكم وقيل لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد والمتشابه في القرآن إنما يقع فيما اختلف الناس فيه من أمور الدين نحو قوله (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) ومنها أن يحتمل معنيين أو ثلاثا أو أكثر فيحمل على الأصوب مثل (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) ومنها ما يزعم فيه من مناقضة نحو (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) وقوله (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) وقوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ومنها ما هو محكم فيه غرضه مثل قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وما يتبع ذلك من الغوامض التي يحتاج إلى بيانها ويستخلص منها إما بموضوع اللغة أو بمقتضى العقل أو بموجب الشرع والحكمة في إنزال المتشابه الحث على النظر الذي يوجب العلم دون الاتكال على الخبر من غير نظر وذلك أنه لو لم يعلم بالنظر أن جميع ما يأتي به الرسول ص حق لجوز أن يكون الخبر كذبا

٢

وبطلت دلالة السمع وفائدته ثم إن به يتميز العالم من الجاهل كما قال (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ثم إنه منزل على لغة العرب ومن عادتهم الاستعارة والمجاز والتعريض واللحن وقد يكون محكما من وجه ومتشابها من وجه كالمعلوم والمجهول فتصح الحجة من وجه المعلوم دون المجهول والشبهة ما تتصور بصورة الدلالة وأسبابها كثيرة منها اتباع هوى من سبق إليه والثاني أن يدخل عليه شبهة فيتخيله بصورة الصحيح والثالث التقليد والرابع ترك النظر والخامس نشء على شيء صار إلفه فيصعب عليه مفارقته وغير ذلك وأسأل الله المعونة على إتمامه وأن يوفقني لإتمام ما شرعت فيه من كتاب أسباب نزول القرآن فإن بانضمامهما يحصل جل علوم التفاسير إنه ولي ذلك والمنعم بطوله

باب ما يتعلق بأبواب التوحيد

قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) الظاهر يقتضي أنه خلق الأرض قبل السماء لأن ثم للتعقيب والتراخي وقال في موضع (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ليس بينهما تناقض لأنه تعالى خلق الأرض قبل السماء غير مدحوة فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك ودحوها بسطها ومنه أدحية النعام لأنها تبسطها لتبيض فيها ويجوز أن لا يكون معنى ثم وبعد في هذه الآيات للترتيب في الأوقات والتقديم والتأخير فيها إنما هو على جهة تعداد النعم والأذكار بها كما يقول القائل لصاحبه أليس قد أعطيتك ثم حملتك ثم رفعت منزلتك ثم بعد هذا كله أخلصتك لنفسي ويقال بعد بمعنى مع نحو قوله (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) ويقال بمعنى قبل نحو قوله (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ).

قوله سبحانه :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) بلا دعامة تدعمها ولا علاقة علق بها بل إن الله تعالى يمسكها حالا بعد حال لأعظم دلالة على أنه لا يقدر عليه سواه ولو اجتمعت الجن والإنس على إمساك تبنة في الهواء أو إثبات تربة على الماء لعجزوا

بنى السماء فسواها بلا عمد

ولم تمد بأطناب ولا عمد

٣

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي ليس لها عمد يسندها لأنه لو كان لها عمد لرأيتموها فلما لم تر دل على أنه ليس لها عمد ولو كان لها عمد لكانت أجساما عظيمة حتى يصح منها إقلال السماوات ولو كانت كذلك لاحتاجت إلى عمد آخر فكان يتسلسل فإذا لا عمد لها بل الله يمسكها حالا بعد حال بقدرته التي لا توازيها قدرة قادر وقال مجاهد لها عمد لا ترونها وَسَأَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ خَالِدٍ الرِّضَا ع عَنْ قَوْلِهِ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) فَقَالَ ع مَحْبُوكَةٌ إِلَى الْأَرْضِ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. لعله ع أراد بذلك قوله (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) لأنه لو كان لها عمد لكانت أجساما عظيمة كثيفة لأنه لا يقل مثل السماوات والأرض إلا ما فيه الاعتمادات العظيمة ولو كانت كذلك لرأيناها ولأدى إلى التسلسل.

قوله سبحانه :

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) ظاهر الآية يقتضي أن العرش الذي تعبد الله الملائكة بحمله كان مخلوقا قبل السماوات والأرض وقد اختاره المرتضى وقال الجبائي في الآية دلالة على أنه كان قبل السماوات والأرض الملائكة لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف لمكلف أو يمكنه الاستدلال به فلا بد إذا من حي مكلف وقال الرماني لا يمتنع أن يتقدم خلق الله لذلك إذا كان في الإخبار بتقدمه مصلحة للمكلفين وهو اختيار الطوسي.

قوله سبحانه :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وجه الاحتجاج بخلق السماوات على الله تعالى ولم يثبت بعد أنها مخلوقة أن تعاقب الضياء والظلام يدل على حدوث الأجسام ثم إنها على تقدير كونها مخلوقة قيل الاستدلال به لأن الحجة به قامت عليه من حيث إنها لم تنفك من المعاني المحدثة.

قوله سبحانه :

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) استدل الرماني بهذه الآية

٤

على أن السماوات غير الأفلاك لأن الأفلاك تتحرك وتدور والسماوات لا تتحرك ولا تدور وهذا غير مرضي لأنه لا يمتنع أن يكون السماوات هي الأفلاك وإن كانت متحركة لأن قوله (يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) معناه لا تزول عن مركزها الذي تدور عليه ولو لا إمساكه لهوت لما فيها من الاعتمادات سفلا

فصل

قوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) وفي موضع (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) وفي موضع (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) أراد بالأول موضع الشروق والغروب لأن المفعل من يفعل ويفعل اسم الموضع منهما كالمذهب والمدخل أما المشرق والمغرب فيجوز فيهما كسر العين وفتحها وأما الثاني عنى به مشرق الشتاء ومشرق الصيف وكذلك المغرب وذلك أن مشرق الشتاء قريب فالليل أطول من النهار وكذلك المغرب وأما الثالث عنى به منازل الشمس في الشروق والغروب لأن للشمس ثلاث مائة وستين منزلا تطلع كل يوم من منزل وتغرب في منزل وكذلك القمر لأن القمر يجاوز المنازل في شهر والشمس تجاوزها في سنة.

قوله سبحانه :

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) وقال (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) وقال (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أما قوله (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) يريد مع اليومين الأولين لأن خلق الرواسي وغير ذلك من تمام خلق الأرض وذلك كما تقول خرجت من بغداد إلى الكوفة في خمسة أيام وإلى مكة في ثلاثين يوما فيكون المبتدأ في جملة الثلاثين وإنما خلقهما في هذا المقدار مع قدرته أن يخلقهما في أقل من لمح البصر لأن الأمور جارية في التدبير على منهاج ولما علم في ذلك من مصالح الخلق في الترتيب ليدل على صانع حكيم وفي إظهارهما كذلك مصلحة للملائكة وغيرهم.

قوله سبحانه :

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) وقوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) استدل أبو علي على بطلان ما يقوله المنجمون من أن الأرض كروية الشكل وهذا إنما

٥

يدل على أن بعضها مسطوح لا جميعها والمنجمون معترفون بأن بعضها مسطوح.

قوله سبحانه : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) الآية لما كانت العرب منفردين عن الناس والسماء لهم سقفا والأرض لهم وطأ والجبال أمامهم وهي كهف لهم وحصن والإبل ملجأهم في الحل والترحال أكلا وشربا وركوبا وحملا نزلت الآية وليست الفيلة بأدل على الله تعالى من البقة ولا الطاوس من القردة فلذلك قرن الإبل بالسماء والأرض بالجبال.

قوله سبحانه :

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) قال الجبائي معناه خلقكم من آدم وآدم من تراب وقال الطوسي معناه خلق أباكم الذي هو آدم وأنتم من ذريته وهو بمنزلة الأصل لنا من طين فلما كان أصله من الطين جاز أن يقول (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وقال غيره أي خلقكم من الأرض والأول أقوى قال الحسن لم يخلق الله آدم إلا للأرض أن عصى وإن لم يعص ولو لم يعص لخرج على غير تلك الحال وقال غيره يجوز أن يكون خلقه للأرض ولغيرها وإن لم يعص وهو الأقوى لأن ما قاله الحسن لا دليل عليه

فصل

قوله تعالى في خلق آدم (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) وفي موضع (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) وفي موضع (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وفي موضع (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) لا تناقض فيها لأنها ترجع إلى أصل واحد وهو التراب فجعله طينا ثم صار كالحما المسنون ثم يبس فصار صلصالا كالفخار

قوله سبحانه :

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وثم يقتضي المهلة والتراخي وذلك يقتضي أن الله تعالى خلق الخلق من آدم ثم بعد ذلك خلق حواء الجواب أن ذلك وإن كان مؤخرا في اللفظ هو مقدم في المعنى كقول القائل قد رأيت ما كان منك اليوم ثم ما كان منك أمس أو أنه معطوف على معنى واحد كأنه قال (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) بمعنى

٦

وحدها (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) ففي واحدة معنى خلقها وحدها ولا يمتنع أن يكون المراد بقوله زوجها غير حواء بل يريد المزوج من نسل آدم من الذكور والإناث فكأنه تعالى قال هو الذي خلقكم من نفس واحدة وهي آدم ثم جعل المزوج من نسل تلك النفس وهذا متأخر عن خلق النفس الواحدة التي هي آدم وإن سبب دخول ثم للاعتداد بهذه النعمة والذكر لها على سبيل الامتنان إنما كان بعد ذكر خلقها من نفس واحدة فكأنه قال هو الذي ذكر لكم واعتد عليكم بأنه خلقكم من نفس واحدة ثم عطف على هذا الاعتداد والامتنان ذكر نعمة أخرى وهي أن زوج هذه النفس المخلوقة مخلوقة منها فزمان الخلق للزوج وإن كان متقدما فزمان ذكره والاعتداد به غير زمان وجوده فلا يمتنع أن يكون الترتيب في زمان الذكر والاعتداد غير الترتيب في زمان الإيجاد والتكوين كقولنا لي عليك من النعمة كذا اليوم ثم كذا أمس المراد بثم الواو وقد يستعمل الواو بمعنى ثم فثم بمعنى الواو وهو الجمع والانضمام نحو قوله (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) معناه والله شهيد وقوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ).

قوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الآية فيها دلالة على أن الإنسان هو هذا الجسم المشاهد لأنه المخلوق من نطفة والمستخرج من سلالة دون ما يذهب إليه معمر وغيره من أنه الجوهر البسيط أو شيء لا يصح عليه التركيب والانقسام.

قوله سبحانه :

(خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أي أصلك من تراب إذ خلق أباه من تراب ويصير إلى التراب وقيل لما كانت النطفة يخلقها الله بمجرى العادة من الغذاء والغذاء نبت من تراب جاز أن يقال خلقك من تراب لأن أصله من تراب كما قال من نطفة وهو في هذه الحال خلق سوي حي لكن لما كان أصله كذلك جاز أن يقال ذلك والوجه في خلق البشر وغيره من الحيوان ونقله من تراب إلى نطفة ثم إلى علقة ثم إلى صورة ثم إلى طفولية ثم إلى حال الرجولية ما في ذلك من الاعتبار الذي هو أدل تحد على تدبير مدبر مختار يصرف الأشياء من حال إلى حال لأن ما يكون بالطبع يكون دفعة واحدة كالكتابة التي يوجدها بالطبائع من لا يحسن

٧

الكتابة فأما إنشاء الخلق حالا بعد حال دل على أنه عالم مختار.

قوله سبحانه :

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) الآية تعلقت الحشوية بذلك وألحقوا به الْخَبَرَ الْأَرْوَاحِ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ. فقولهم باطل لأنه قال (مِنْ بَنِي آدَمَ) ولم يقل من آدم وقال (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ولم يقل من ظهره وقال (ذُرِّيَّتَهُمْ) ولم يقل ذريته وأي ظهر يحتمل هذه الذرية وأي فضاء يتسع ولفظ الذرية إنما يقع على المولود ولا يكون في الصلب ذرية ويوجب أن يكون المأخوذ منهم ذرية آدم لصلبه ولا يدخل أبناء الأبناء ومن بعدهم لأن الذرية إنما تطلق على ولد الصلب وما عداه مجاز يعرف ذلك بدليل آخر دون ظاهر اللفظ ومعلوم أن الولد يخلق من المني وإنما يحدث من الإنسان حالا بعد حال ويستحيل من الأطعمة وكيف يجتمع في صلب واحد جميع ما يكون من عقبه إلى يوم القيامة من المني والإشهاد إنما يصح ممن يعقل ويكون الجواز عنه مستحيلا والله تعالى رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ ولم يلزمه معرفته والذرية المستخرجة من ظهر آدم إذا خوطبت وقررت لا بد أن يكون كاملة العقول مستوفية التكليف لأن ما لم يكن كذلك يقبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم وإن كانوا بصفة كمال العقل وجب أن يذكرها ولا يعد إنشاءهم أو كمال عقولهم تلك الحال فإن الله تعالى أخبرنا بأنه إنما أقررهم وأشهدهم لئلا يدعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك أو يعتذروا بشرك آبائهم وإنهم نشئوا بين أيديهم وهذا يدل على اختصاص ببعض ذرية ولد آدم وهو الصحيح فإنه خلقهم وبلغهم على لسان رسله معرفته وما يجب من طاعته فأقروا بذلك لئلا يقولوا (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) وإن الله تعالى لما خلقهم وركبهم تركيبا يدل على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته وأراهم العبر والآيات والدلائل في غيرهم وفي أنفسهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ويجري ذلك مجرى قوله (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً).

قوله سبحانه :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) قوله (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) ليس يوجب اللفظ أن يكون أخذ الميثاق عليهم في وقت واحد ومكان

٨

واحد بل يكون معناه أخذ ميثاق أمم النبيين بتصديق نبيها والعمل بما جاءهم به ويقال أخذ العهد بما نصب لهم من الحجج الواضحة والبراهين الساطعة الدالة على توحيده وعدله وصدق أنبيائه ورسله ويمكن أن يكون ذلك ما روي في تقرير الأنبياء ع على ولاية علي ع على ما بيناه في كتبنا.

قوله سبحانه :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) هذا الميثاق هو المعنى في قوله (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) الآيات.

قوله سبحانه :

(فِطْرَتَ اللهِ) وقوله (مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) وقوله (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) وقوله (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) فليس فيها شيء من دعواهم أنه مسح ظهر آدم واستخرج منه الذرية وأشهدها على نفوسها وأخذ إقرارها بمعرفته وقد بينا فساده في الآية الأولى

فصل

قوله تعالى (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) روي أن الله ألقى على آدم النوم وأخذ منه ضلعا فخلق منه حواء وروي أنه خلقها من فضل طينته قال الرماني وجماعة من المفسرين ليس يمتنع أن يخلق الله حواء من جملة جسد آدم بعد أن لا يكون جزءا مما لا يتم كون الحي حيا إلا معه لأن ما هذه صفته لا يجوز أن ينقل إلى غيره أو يخلق منه حيا آخر حيث يؤدي إلى أن لا يصل الثواب إلى مستحقه لأن المستحق لذلك الجملة بأجمعها.

قوله سبحانه :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) لا يجوز أن يكون لإنسان واحد قلبان لا يؤدي إلى أن لا ينفصل إنسان من إنسانين كأنه ربما يريد بأحد قلبيه ما يكرهه بالقلب الآخر أو يشتهي ما لا يشتهي الآخر أو يعلم ما لا يعلم الآخر فيصير كشخصين وقال بعضهم يجوز أن يكون للإنسان قلب كثير الأجزاء ويمتنع أن يريد ببعض الأجزاء ما يكرهه بالبعض

٩

لأن الإرادة والكراهة إن وجدتا في جزء من القلب فالحالتان الصادرتان عنها يرجعان إلى الجملة وهي جملة واحدة فاستحال وجود معنيين ضدين في حي واحد ويجوز أن يكون معنيان مختلفان أو مثلان في جزءين من القلب ويوجبان الصفتين للحي الواحد وكذلك المعنيان في قلبين إذا كان مما يوجد منهما يرجع إلى حي واحد إلا أن السمع ورد بالمنع من ذلك.

قوله سبحانه :

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) لما كان الجمع على تشاكل وجمعت قلوبهم على تشاكل فيما تحبه وتنازع إليه كان قد ألفت ومنه قيل هذه الكلمة تأتلف مع هذه ولا تأتلف.

قوله سبحانه :

(إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي سليم من الفساد والمعاصي وإنما خص القلب بالسلامة لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد من حيث إن الفساد بالجارحة لا يكون إلا عن قصد بالقلب الفاسد فإذا اجتمع مع ذلك جهل فقد عدم السلامة من وجهين وقيل سلامة القلب سلامة الجوارح لأنه يكون خاليا من الإصرار على الذنب.

قوله سبحانه :

(وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) ضيق الصدر يمنع من سلوك المعاني في النفس لأنه يمنع منه كما يمنع ضيق الطريق من السلوك فيه ولا ينطلق لساني أي لا ينبعث بالكلام وقد يتعذر ذلك لضيق الصدور وغروب المعاني التي تطلب للكلام وقيل في قوله (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) بمعنى ضيق صدورهم بالهم الذي حصل فيها.

قوله سبحانه :

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ظاهره يفيد الشك الذي لا يجوز على الله تعالى الجواب إن أو هاهنا للإباحة يقال جالس الحسن أو ابن سيرين والق الفقهاء أو المحدثين أو دخلت للتفصيل ويكون معناها إن قلوبهم قست فمنها ما هو كالحجارة في القسوة ومنها ما هو أشد قسوة منها نحو قوله (وَقالُوا

١٠

كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) وفي معناه قال بعضهم كونوا هودا وهم اليهود وقال بعضهم أو نصارى وهم النصارى ومثله (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أو دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب وإن كان الله تعالى عالما بذلك غير شاك فيه والمعنى أنهما كأحد هذين لا يخرجان عنهما كقولهم ما أطعمك إلا حلوا أو حامضا فيبهمون على المخاطب بما يعلمون أنه لا فائدة في تفصيله أو بمعنى بل نحو قوله (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قالوا كانوا مائة ألف وبضعا وأربعين ألفا وقوله (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) شعر

فو الله لا أدري أسلمى تغولت

أم البدر أم كل إلى حبيب

أو بمعنى الواو نحو قوله (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) معناه وبيوت آبائكم وقوله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَ) الآية ـ جرير

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربه موسى على قدر

قوله سبحانه : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) إنها كناية عن القرآن ومعناه أقررناه في قلوبهم بإخطاره ببالهم ليقوم الحجة عليهم ولله لطف يوصل به المعنى والدليل إلى القلب فمن ذكره أدرك الحق به ومن أعرض عنه كان كمن عرف الحق وترك العمل به في لزوم الحجة والفرق بين إدراك الحق بسلوكه في القلب وبين إدراكه بالاضطرار إليه في القلب أن الاضطرار إليه يوجب الثقة به فيكون صاحبه عالما به وأما سلوكه فيكون مع الشك فيه.

قوله سبحانه :

(لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) إلى قوله (فِي الصُّدُورِ) فيها دلالة على أن العقل هو العلم لأن معنى يعقلون بها يعلمون بها مدلول ما يرون من العبرة وفيها دلالة على أن القلب محل العقل والعلوم لأنه تعالى وصفها بأنها هي التي تعمى وأنها التي تذهب عن إقرار الحق فلو لا أن التبيين يصح فيها لما وصفها بأنها تعمى كما لا يصح أن يصف اليد والرجل بذلك.

١١

قوله سبحانه :

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) رد على من قال إن العقل في الدماغ والصحيح أن محل العلم والعقل القلب لأن الشاك في الشيء يجد التغيير من جهة القلب كما أن المريد يجد التغيير من جهته.

قوله سبحانه :

(إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) أي يتخيلونهم بأعينهم قليلا من غير رؤية على الصحة لجميعهم وذلك بلطف من ألطافه تعالى مما يصد به عن الرؤية من قتام يستر بعضهم ولا يستر بعضا آخر قال ابن مسعود رأيناهم قليلا حتى قلت لمن كان إلى جانبي أتراهم سبعين رجلا فقال هم نحو المائة وكانوا ألفا.

قوله سبحانه :

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) السبات من صفات النوم إذا وقع على بعض الوجوه وهو النوم الطويل يقال لمن وصف بكثرة النوم إنه مسبوت وبه سبات ولا يقال ذلك في كل نائم والسبات الراحة والدعة ومنه السبت للفراغ من الخلق قالت اليهود ابتداء الخلق يوم الأحد والفراغ في يوم السبت وقال النصارى بل كان يوم الاثنين إلى السبت والفراغ يوم الأحد وقال المسلمون بل كان في يوم السبت والفراغ في يوم الخميس وجعلت الجمعة عيدا وقيل السبت القطع والخلق فمعنى قوله (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي ليس بموت لأن النائم قد يعتقد من علومه وقصوده وأحواله أشياء كثيرة والله تعالى امتن علينا بالنوم المضاهي للموت وليس بمخرج عن الحياة والإدراك فجعل التأكيد بذكر المصدر قائما مقام نفي الموت ووجه آخر أنه جعل نومنا ممتدا لما في ذلك من المنفعة والراحة والنوم اليسير لا يكسب شيئا من الراحة بل يصحبه في الأكثر القلق والانزعاج والهموم.

قوله سبحانه :

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) والقلب إذا زال عن موضعه مات صاحبه المراد إنهم جبنوا ومن شأن الجبان عند الهول أن ينتفخ منخره والرية إذا

١٢

انتفخت رفعت القلب ونهضت به إلى نحو الحنجرة ذكره الفراء والكلبي وأبو صالح عن ابن عباس والقلوب توصف بالوجيب في أحوال الجزع شاعر

كأن قلوب أدلائها

معلقة بقرون الظباء

ويكون المعنى كادت القلوب من شدة الرعب تبلغ الحناجر فألغى ذكر كادت لوضوح الأمر فيها ولفظة كادت للمقاربة.

قوله سبحانه :

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) المعنى مثل واعظ الذين كفروا والداعي لهم إلى الإيمان والطاعة كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم وهي لا تعقل معنى دعائه إنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه ويجوز أن يقوم قوله مقام الداعي لهم كما تقول العرب فلان يخافك خوف الأسد وهذا المعنى مضاف إلى الأسد شعر

فلست مسلما ما دمت حيا

على زيد بتسليم الأمير

مثل الذين كفروا كمثل الغنم التي لا تفهم ما أراد الناعق أضاف المثل الثاني إلى الناعق وهو في المعنى مضاف إلى المنعوق به تقول العرب طلعت الشعرى أي نجمها وانتصب العود على الحرباء المعنى انتصب الحرباء على العود قال كأن لون أرضه سماؤه أراد كأن لون سمائه أرضه قال أبو النجم قبل دنو النجم من جوزائه ومثل الذين كفروا ومثلنا أو ومثلهم ومثلك يا محمد كمثل الذي ينعق أي مثلهم في الدعاء والتنبيه والإرشاد كمثل الناعق والغنم فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول مثل قوله (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وأراد الحر والبرد أبو ذؤيب

عصيت إليها القلب إني لأمرها

مطيع فما أدري أرشد طلابها

أراد أرشد أم غي ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم لها كمثل الراعي الذي ينعق بغنمه ويناديها نداءه ودعاءه ولا تفهم معنى كلامه فشبه من يدعوه الكفار من المعبودات بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب ولا تفهمه ولا نفع عندها فيه ولا مضرة

١٣

فصل

قوله تعالى (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) لو أنزلنا ملكا في صورته لقامت الساعة ووجب استيصالهم ثم قال (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي في صورة رجل لأن أبصار البشر لا تقدر على النظر إلى صورة ملك على هيئته للطف الملك وقلة شعاع أبصارنا ولذلك كان جبريل يأتي النبي ع في صورة دحية الكلبي وكذلك الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم في صورة الأضياف حتى قدم إليهم عجلا سمينا لأنه لم يعلم أنهم ملائكة وكذلك لما تسور المحراب على داود الملكان كانا على صورة رجلين يختصمان إليه.

قوله سبحانه :

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ). (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) الآية قال الجبائي ظهور الملائكة لمريم أنما كان معجزة لزكريا ع لأن مريم لم تكن نبية لقوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) وقال ابن الإخشيد كان ذلك إظهارا لنبوة عيسى ع كما كان ظهور الشهب والغمامة وغيرهما معجزة للنبي ع ويجوز عندنا أن يكون معجزة لها وكرامة وإن لم تكن نبية لأن إظهار المعجزات عندنا أنما تدل على صدق من ظهرت على يده سواء كان نبيا أو إماما أو صالحا على أنه يحتمل أن يكون الله قال ذلك لمريم وقد يقال قال الله لها وإن كان بواسطة كما تقول قال الله كذا وكذا وإن كان على لسان النبي ع.

قوله سبحانه :

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) إنما جاز أن تتصور الملائكة في صورة البشر مع ما فيه من الإيهام لأنه قد اقترن به دلالة وكان فيه مصلحة فجرى مجرى السراب الذي يتخيل أنه ماء من غير علم بأنه ماء.

قوله سبحانه :

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) معناه غلاظ في الأخلاق شداد في القوى وإن كانوا رقاق الأجسام لأن الظاهر من حال الملك أنه روحاني فخروجه عن الروحانية كخروجه

١٤

عن صورة الملائكة.

قوله سبحانه :

(لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) وقوله (سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) قال جماعة إن الملائكة كلهم رسل الله وقال الرماني في قوله (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) ظاهر الآية يقتضي العموم وعمومه يقتضي أنهم لا يعصونه في صغيرة ولا كبيرة.

قوله سبحانه :

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) أدخل من للتبعيض فدل على أن جميعهم لم يكونوا أنبياء كما أنه لما قال (وَمِنَ النَّاسِ) دل على أن جميع الناس لم يكونوا أنبياء وذهب أصحابنا إلى أن فيهم رسلا وفيهم من ليس برسول فلو كانوا جميعا رسلا لكانوا جميعا مصطفين لأن الرسول لا يكون إلا مختارا مصطفى كما قال (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) فالرسل منهم لا يجوز عليهم فعل القبيح ولا دليل على أن جميعهم بهذه الصفة.

قوله سبحانه :

(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) يدل على زيادة التثبيت في نفوسهم أنه يعلم الغيب وإنما قالوا ذلك لما رأوه من الجان أو قالوا استعظاما لفعلهم أو إن الله كان قد أخبرهم أو قالوا على وجه الإيجاب وإن خرج مخرج الاستفهام أو على وجه التوجع والتألم وقيل إنما سألوا على وجه التعريف والاستفادة وإنما أرادوا بذلك غير الأنبياء والمعصومين وكأنه تعالى قال (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يكون له ولد ونسل يفعلون كيت وكيت فقالوا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) يريدون الولد ويحتمل أن يكون قوله (مَنْ يُفْسِدُ فِيها) يريدون البعض لا الكل كما يقال بنو شيبان يقطعون الطريق أي بعضهم.

قوله سبحانه :

(سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) يحتمل وجهين قال ابن عباس تنزيها لله أن يكون أحد يعلم الغيب والثاني أنهم أرادوا أن يخرجوا الجواب مخرج التعظيم لله فكأنهم قالوا

١٥

تنزيها لك عن القبائح.

قوله سبحانه :

(كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) أي ملائكة لا يخفى عليهم شيء من الذي تفعلونه فيثبتون ذلك كله وعلمهم بذلك إما باضطرار كما تعلم أنه يقصد إلى خطابنا وأمرنا ونهينا وإما باستدلال إذا رأوه وقد ظهر منه الأمور التي لا تكون إلا عن علم وقصد نحو رد الوديعة وقضاء الدين والكيل والوزن مما يتعهد فيه أهل الحقوق قال الحسن يعلمون ما تفعلون من الظاهر دون الباطن وقيل هو على ظاهر العموم لأن الله يعلمهم إياه.

قوله سبحانه :

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) كلام مجمل لا يعرف تسعة عشر آحاد أم عشرات أم مئون أم ألوف وكذلك قوله (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) قال ابن عباس وقتادة والضحاك عدة الملائكة الموكلين بالنار في التوراة والإنجيل تسعة عشر فكان ذكر هذا العدد تصديقا للنبي ع.

قوله سبحانه :

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي خزنة.

قوله سبحانه :

(فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه إنما عرف انتفاء الشهوات عنهم وإنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون ولا يتوالدون وليس لهم ذرية بالإجماع وبهذه الآية.

قوله سبحانه :

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) بين أنهم ليسوا بمجبولين على أعمالهم.

قوله سبحانه :

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) إنما أخر ذكر جبريل

١٦

وميكال من الملائكة ذكرا لفضلهما ومنزلتهما كما قال (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وكقوله (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أو لما تقدم من قصتهما قبلها وهذه الآية نزلت فيهما وفيما جرى من ذكرهما ثم إن اليهود لما قال إن جبريل عدونا وميكال ولينا خصا بالذكر لئلا تزعم اليهود أن جبريل وميكال مخصوصان من جملة الملائكة وغير داخلين في جملتهم فنص الله عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص.

قوله سبحانه :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) قال الحسن هو ملك الموت وأعوانه وإنهم لا يعلمون آجال العباد حتى تأتيهم ذلك من قبل الله بقبض أرواح العباد.

قوله سبحانه :

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) قال المحققون إن ملك الموت لا ينبغي أن يكون واحدا لأنه جسم والجسم لا يصح أن يكون في الأماكن الكثيرة في حالة واحدة وتأولوا هذه الآية أنه أراد ب ملك الموت الجنس دون الشخص الواحد كما قال (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أراد جنس الملائكة.

قوله سبحانه :

(وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) المعلقان كيف يعلمان السحر وكيف لا يراهما إلا السحرة ويحمل ما على الجحد والنفي فكأنه تعالى قال (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ولا أنزل الله السحر على الملكين (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) ويكون قوله (بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) يعني رجلين من جملة الناس هذان أسماؤهما وإنما ذكرا بعد ذكر الناس تمييزا وتبيينا ويكون الملكان المذكوران اللذان نفي عنهما السحر ـ جبريل وميكائيل لأن سحرة اليهود ادعت أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان ع فأكذبهم الله بذلك ويجوز أن يكون هاروت وماروت كفرا وكان ابن عباس يقرأ (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) بكسر اللام ويقول متى كان العلجان ملكين إنما كان ملكين وفيه جواب سيجيء إن شاء الله تعالى

١٧

فصل

قوله تعالى (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) يدل على أنه لم يكن من الملائكة لأن الجن جنس غير الملائكة كما أن الإنس غير جنس الجن وقوله (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء من غير جنسه نحو قوله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) وقوله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) ويكون إلا بمعنى لكن وتقديره لكن إبليس (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

قوله سبحانه :

(أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) قال جماعة إن الملائكة من الجن فلو كانت كذلك لم يكن لقولهم (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) ونفي عبادتهم إياه معنى وقال ابن عباس كان إبليس من الملائكة وقال الطوسي إن أخبارنا تدل على أن إبليس كان من جملة الملائكة وإنما كفر بامتناعه من السجود وقال ابن جريح وقتادة في قوله (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) إلى قوله (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) عنى بالإله إبليس لأنه الذي ادعى الإلهية من الملائكة دون غيره وذلك يدل على أنه كان من الملائكة وقيل إنه من طائفة من الملائكة يسمون جنا من حيث كانوا خزنة الجنة وقيل سموا بذلك لاجتنانهم عن العيون قوله (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) ومن راعى هذه الطريقة قال من قال إن إبليس له ذرية وهم يتوالدون ويأكلون ويشربون عول على خبر غير معلوم وهذا فاسد لأن الله تعالى أثبت له الذرية في قوله (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي).

قوله سبحانه :

(أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) يدل على بطلان قول من قال إنه كان يعبد الله وإنما جاز أن يأمره بالسجود له وإن لم يأمره بالعبادة له لأن السجود مرتب في التعظيم بحسب ما يراد به.

١٨

(أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) وقوله (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وجه الشبهة الداخلة على إبليس أن الفروع ترجع إلى الأصول فتكون على قدرها في التكبير والتصغير فلما اعتقد أن النار أكرم أصلا من الطين جاء منه أنه أكرم ممن يخلق من طين وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها متماثلة وأن الله يصرفها بالأعراض كيف شاء مع كرم جوهر الطين وكثرة ما فيه من المنافع التي تقارب منافع النار أو توفي عليها قال الجبائي الطين خير من النار لأنه أكثر منافع للخلق من حيث إن الأرض مستقر الخلق وفيها معايشهم ومنها يخرج أنواع أرزاقهم لأن الخيرية في الأرض أو في النار أنما يراد بها كثرة المنافع دون كثرة الثواب.

قوله سبحانه :

(لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) أي لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها إذا شد فيها حبل تجر به إلا قليلا الذين لا يتبعونه وإنما ظن إبليس هذا الظن بأنه يغوي أكثر الخلق لأن الله كان قد أخبر الملائكة أنه سيجعل فيها من يفسد فيها فكان قد علم بذلك وقال الحسن لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فقال بنوا هذا مثله في ضعف العزيمة وهذا معترض لأن آدم لم يفعل قبيحا ولم يترك واجبا.

قوله سبحانه :

(لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) لم يقل على وجه المداخلة وقال ابن عباس ولم يقل من فوقهم لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم ولم يقل من تحت أرجلهم لأن الإتيان منه يوحش وقال ابن عباس وقتادة وإبراهيم والحكم والسدي وابن جريح أي من قبل دنياهم وآخرتهم ومن جهة حسناتهم وسيئاتهم وقال مجاهد من حيث يبصرون وقال البلخي وأبو علي من كل جهة يمكن الاحتيال بها.

قوله سبحانه :

(لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي لأخيبنهم من تناول الثواب قال الشاعر : ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ثم استثنى وقال (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) مع حرصه على

١٩

إغواء الجميع من حيث إنه ليس منهم وعلم أنهم لا يقبلون منه وأنه ليس له عليهم سلطان إلا بالإغواء فإذا علم أن منهم من لا يقبل منه صرفه عن ذلك إياسه منه.

قوله سبحانه :

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) وقوله (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) قال الجبائي ليس له عليهم قدرة على ضر ونفع أكثر من الوسوسة والدعاء إلى الفساد فأما على ضر فلا لأنه خلق ضعيف متخلخل لا يقدر على الإضرار بغيره.

قوله سبحانه :

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا سافروا في واد نادوا للجن نعوذ برب هذا الوادي ثم قالوا احبس عنا سفهاءكم فتقول الجن نحن لا نملك لكم ضرا ولا نفعا وهم يفزعون منا فكانوا يجترون على الإنس ويرهقونهم ويخوفونهم وكيف يتسلط من لا يقدر على نفع ولا ضر أو كيف يسلط الله على عبيده ليضلهم عن الحق ثم يكلفهم ولا يجيء منه فعل في غير محل القدرة وإنه جسم شفاف وليس منه سوى إرادة المعاصي وتزيين الشهوات والدعاء إلى المنكرات.

قوله سبحانه :

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) وقوله (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) وسواس الشيطان دعاؤه إلى معصية الله بقول خفي ويقارن دعاؤه أنه يريد بذلك نفعه ويجوز أن يصل وسواسه إلى قلب العبد بآلة لطيفة ويجوز أن يكون إذا تكلم بذلك في نفسه أعلمناه الله كما لو تحدث إنسان في نفسه جاز أن يعلمه الله قال رؤبة وسوس يدعو مخلصا رب الفلق والوسوسة تكون من الجن والإنس والشيطان اسم لكل بعيد من الخير قوله (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) وَرَأَى النَّبِيُّ ع رَجُلاً يَتْبَعُ حَمَاماً فِي طَيَرَانِهِ فَقَالَ شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَاناً.

٢٠