مرآة الحقائق - ج ٢

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ٢

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

فمن تعلّق بشيء مما سوى الله ؛ فقد أشرك بالله ، وحط درجته عن درجة القربة والوحدة ، فعليه بالتوحيد القلبي ؛ لأن القلب هو الذي يشاهد ربه بالوحدانية والربوبية.

وأشار بالألوهية إلى أن الشرك ؛ إنما هو خطأ النفس بالميل إلى الصفات المختلفة ، فلو مالت إلى الصفة الحقيقية لله تعالى ، وهو صفة الألوهية التي انفرد بها عن الخلق ؛ كانت مستقيمة في طريق الحق لا منحرفة ، فكان خطؤها في صفة الذّاتية خطأ منها في الذّات الأحدية ، فسرى الشرك من الصفات إلى الذّات ، ومن ثم لم يكن الشيطان من أهل الذّات قطعا ، وكذا النفس إذ لو كان من أهله كان مؤمنا ، ومن كان مؤمنا في مرتبة الذات ؛ خلص من الإلحاد في مرتبة الصفات ، وإنما عدّ الحلف

__________________

ـ دقيقة : لما تجردت الحقيقة الذاتية عن الاتّصاف تكون معناها في القابل لها من الأوصاف ، لون الماء لون إنائه ، يسقي بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل.

على قدرك الصهباء تعطيك نشوة

ولست على قدر السلاف تصاب

ولو أنها تعطيك يوما بقدر ما

لضاقت بك الأكوان وهي رحاب

حقيقة : تجلي الحال في المشاهد بحسب ما أعطى المشاهد ، فالعوام لا يشهدون غير مشهد حسن الصورة الحسية ، والخواص رفع لهم الستر عن صورة الحسّ المعنوية. التي تجلّى بها اسمه تعالى الظاهر في جميع الأكوان بكل المظاهر.

تراه إن غاب عني كل جارحة

في كل معنى لطيف رائق بهج

في نغمة العود والناي الرخيم إذا

تألّفا بين ألحان من الهزج

وفي مسارح غزلان الخائل في

برد الأصائل والإصباح في البلج

دقيقة : المزاحم على برقشة الجمال السفلي محجوب عن شهود الجمال العلوي ، فاترك المضايقة في طريق المركز الأدنى ، وارق بهمتك إلى الأوج الأعلى.

وما نحن إلا خطوط وقعت

على نقطة وقع مستوفز

محيط العوالم أولى بنا

فماذا التزاحم في المركز

وانظر : قوانين حكم الإشراق (ص ٢٠) بتحقيقنا.

٤١

باللات والعزى شركا منافيا للتوحيد.

وقد أقسم الله تعالى بغير ذاته وصفاته في مواضع كثيرة من القرآن ؛ مثل : والشمس ، والضحى ، والتين والزيتون ، والعصر ونحو ذلك ؛ لأن ذلك قسم من المتعين بتعيناته الواقعة في طريق الهدى.

وأمّا القسم بما في طريق الضلال فلم يرد ؛ لأن القسم من قبيل القول ، والقول من قبيل العمل ، وفرق بين عمل الشيء ، ومعرفته على ما هو عليه ، ومن ثم قالوا : إن أهل الحق لا يفرقون بين شيء وشيء : أي في العلم بخلاف العمل ، فإن الحكمة تقتضي الوقوف عند الشرائع الظاهرة لا عند الحقائق الباطنة ، ثم إن كلمة التوحيد طوي عنها النقطة ؛ لأن النقطة للتمييز : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨].

ودلّت الآيات التكوينية والتنزيلية على وحدة الوجود الواجبي والإمكاني (١).

__________________

(١) قال الشيخ الكتاني : ذكر المتكلمون على وحدة الوجود أن هاهنا وحدات ثلاثا :

الأولى منها : وحدة كل موجود على انفراده ومعناها أن كل فرد من أفراد الموجودات الظاهرة والباطنة من حيث هو له من الله تعالى وجه خاص يلقي إليه منه ما يشاء لا يشاركه فيه أحد وله منه أيضا وجهة معينة وصفة مخصوصة لا تكون لغيره بها يتميز عن غيره من سائر المخلوقات وهذه الوجهة هي حقيقته المختصة به وصفته المخصوصة.

قال في «الفتوحات» في الفصل الخامس عشر من الباب الثامن والتسعين ومائة ما نصه : وأما الله تعالى فهو مع كل شيء فلا يتقدمه شيء ولا يتأخر عنه شيء وليس هذا الحكم لغير الله تعالى ولهذا له إلى كل موجود وجه خاص لأنه سبب كل موجود وكل موجود لا يصح أن يكون اثنين ، انتهى.

يشير إلى هذه الوحدة وإن شئت زيادة بيان لها فقل إنه ما من عين مخلوقة إلا ولها من الله خاصية وعلامة تميزها عن غيرها من كل ما خلقه الله من الأعين من ابتداء الوجود إلى انتهائه كما أن لها منه مادة مخصوصة لا يشاركها فيها عين أخرى ، وإن قلنا : إن هذه العين مثل هذه كزيد مثلا مثل عمرو أو هذه الحبة من البر أو غيره مثل هذه فما هي مثلية حقيقية إذ كل واحد منهما لا بد له من مميز يدرك ذلك من خالطه المخالطة الخاصة أو تأمله كذلك أو فتح الله عين بصيرته وذلك المميز هو وجهه المختص به وهو حقيقته الخاصة وصفته المخصوصة فهذه هي وحدة كل موجود.

الثانية : وحدة جميع الموجودات الكونية من حيث جملتها وهي وحدته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعناها أن العالم كله من

٤٢

__________________

ـ أوله إلى ما لا نهاية له منه شيء واحد بالذات أعني نورانيته واحدة وحقيقة متحدة متضمنة لجميع الحقائق وهي نورانيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقيقته المفاضة من الذات العلية فيضانا متحدا بالفيض الأقدس أولا في العلم ثم بالفيض المقدس ثانيا في العين والخارج وما لها من التفاصيل والوجوه والقيود والاعتبارات والخيالات العارضة لا يعددها ولا يكثرها كالذات الواحدة الإنسانية فإنها حقيقة واحدة لا يكثرها ويعددها ما لها من الأعضاء والحواس الظاهرة والباطنة وإن كانت متعددة ، وهذا معنى ما بلغنا عن بعضهم من أنه كان يقرر وحدة الوجود فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان بعض أشياخنا ممن جمع بين الظاهر والباطن يومئ إليها فيقول : إذا رأى إنسانا مقبلا عليه أي إنسان كان مرحبا بالنور المحمدي حتى صار يلقب بهذا اللقب فيقال له : النور المحمدي وكان يشير بذلك إلى أن الأكوان كلها إنما هي مظاهره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنواره المتحدة بالذات ، وإن تعددت بالاعتبارات ، وأن وجوده إنما هو بوجوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإمداده المستمد من الحضرة العلية التي هي حضرة الأحدية.

وفي «الجامع» لأبي عبد الله محمد بن المشري نقلا عن شيخه أبي العباس التيجاني قال : الحقيقة المحمدية هي الكون بأسره فلو رفع الحجاب لم تر إلا الحقيقة المحمدية بارزة وحدها عليها أفضل الصلاة والسّلام انتهى.

يريد أنها سارية فيه كسريان الماء في العود الأخضر بحيث لو زال هذا السريان لصار عدما محضا في الحال قبل المآل ولو زالت هذه المظاهر التي هي الحاجبة عنها لم تر إلا هي بارزة وحدها وإلى هذه الوحدة يشير في «الفتوحات» عقب ما مرّ عنه في الوحدة قبلها بقوله : وهو واحد فما صدر عنه إلا واحد فإنه في أحدية كل واحد وإن وجدت الكثرة فبالنظر إلى أحدية الزمان الذي هو الظرف ، فإن وجود الحق في هذه الكثرة في أحدية كل واحد فما ظهر عنه إلا واحد ، فهذا معنى لا يصدر عن الواحد إلا واحد ولو صدر عنه جميع العالم لم يصدر عنه إلا واحد فهو مع كل واحد من حيث أحديته ، وهذا لا يدركه إلا أهل الله ، وتقوله الحكماء على غير هذا الوجه وهو مما أخطأت فيه ، انتهى منه بلفظه.

وقد ذهب الأشاعرة والمتكلمون إلى جواز استناد آثار متعددة لمؤثر واحد بسيط لأنهم قائلون بأن جميع الممكنات المتكثرة كثرة لا تحصى مستندة بلا واسطة إلى الله تعالى مع كونه منزها عن التركيب والحكماء منعوا هذا أعني جواز استناد الآثار المتعددة إلى المؤثر البسيط الواحد الحقيقي من جميع الجهات ، وقالوا : إنه لا يجوز أن يستند إليه إلا أثر واحد ، وقالوا في معنى ما صدر عن الواحد إلا واحد أن الحق تعالى ما خلق إلا واحدا وهو العقل الأول ، والعقل الأول أوجد الفلك الأول بمادته وصورته ونفسه الناطقة المدبرة له وأوجد العقل الثاني ثم العقل الثاني أوجد فلكه ومادته وصورته ونفس والعقل الثالث ، وهكذا إلى العقل العاشر ، ثم خلق العقل العاشر العناصر الأربعة ، والمواليد الثلاثة بأنواعها الكثيرة ونفوسها وقواها ، وغير ذلك إلى ما شاء الله. هذا ما قالوا.

٤٣

__________________

ـ وحمل الأكثرون كلامهم هذا على الظاهر من إثبات فاعل ومؤثر غير الله تعالى عما لا يليق به وحقق المحقق الدواني في بعض رسائله أن تحقيق مذهبهم أنه لا فاعل في الوجود إلا الله تعالى وبين ذلك بالبيان الشافي فلينظر.

وأهل الله تعالى يقولون معنى ما صدر عن الواحد إلا واحد أن وجوده تعالى في أحدية كل واحد وأنه مع كل واحد من حيث أحديته كما قاله الشيخ الأكبر ، أو أنه ما صدر عن الحق تعالى إلا واحد وهو الوجود المفاض من الذات العلية فيضانا متحدا والعقل الأول وغيره من سائر الموجودات سواء في هذا الوجود المفاض كما قاله غيره.

وقال العارف الجامي في «الدرة الفاخرة الملقبة بحط رحلك» في ترجمة القول في صدور الكثرة عن الوحدة : الظاهر أن الحق ما ذهب إليه الحكماء من امتناع صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي ولذا وافقهم الصوفية المحققون في ذلك لكن خالفوهم في كون المبدأ الأول كذلك فإنهم يثبتون له تعالى صفات ونسبا تغايره عقلا لا خارجا كما سبق فيجوّزون أن يصدر عنه باعتبار كونه مبدءا للعالم كثرة من حيث كثرة صفاته واعتباراته وأما من حيث وحدته الذاتية فلا يصدر عنه إلا أمر واحد من تلك الصفات والاعتبارات أي وهو نسبة العموم والانبساط للوجود المفاض المعبر عنه بالعما قال وبواسطته يلحقه سائر الاعتبارات وبواسطة كثرة الاعتبارات كثرة وجودية حقيقية انتهى منه بلفظه.

وقال صدر الدين القونوي في رسالة «مفتاح الغيب» في ترجمة فصل شريف يشتمل على علم غزير خفي لطيف ما نصه : الوجود في حق الحق عين ذاته وفي من عداه أمر زائد على حقيقته وحقيقة كل موجود عبارة عن نسبة تعينه في علم ربه أزلا وتسمى باصطلاح المحققين من أهل الله عينا ثابتة.

وفي اصطلاح غيرهم ماهية والمعدوم الممكن والشيء الثابت ونحو ذلك والحق سبحانه من حيث وحدة وجوده لم يصدر عنه إلا واحد لاستحالة إظهار الواحد غير الواحد وإيجاده من كونه واحدا أكثر من واحد لكن ذلك الواحد عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان الممكنات ما وجد منها وما لم يوجد معا سبق العلم بوجوده وهذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود عند الحكيم المسمي بالعقل الأول وبين سائر الموجودات وليس كما يذكره أهل النظر من الفلاسفة بأنه ما ثم عند المحققين إلا الحق والعالم ، والعالم ليس بشيء زائد على حقائق معلومة لله تعالى أولا كما أشرنا إليه من قبل متصفة بالوجود ثانيا فالحقائق من حيث معلوميتها وعدميتها لا توصف بالجعل عند المحققين من أهل الكشف والنظر أيضا ؛ إذ المجعول هو الموجود فما لا وجود له لا يكون

٤٤

__________________

ـ مجعولا ، ولو كان كذلك لكان للعلم القديم في تغير معلوماته فيه أزلا أثر مع أنها غير خارجة عن العالم بها ، فإنها معدومة لا نفسها ، لا ثبوت لها إلا في نفس العالم بها ، فلو قيل بجعلها لزم إما مساواتها للعالم بها في الوجود ، أو أن يكون العالم بها محلّا لقبول الأثر من نفسه في نفسه ، وظرفا لغيره أيضا ، وكل ذلك باطل ؛ لأنه قادح في صرافة وحدته سبحانه أزلا ، وقاض بأن الوجود المفاض عرض لأشياء موجودة لا معدومة ، وكل ذلك محال من حيث أنه تحصيل للحاصل ، ومن وجوه أخر لا حاجة إلى التطويل بذكرها فافهم ، فثبت أنها من حيث ما ذكرنا غير مجعولة ، وليس ثمة وجودان كما ذكر بل الوجود واحد ، وهو مشترك بين سائرها مستفاد من الحق سبحانه وتعالى.

ثم إن هذا الوجود الواحد العارض للممكنات المخلوقة ، ليس بمغاير في الحقيقة للوجود الحق الباطن ، المجرد عن الأعيان والمظاهر ، إلا بنسب واعتبارات ، كالظهور والتعين والتعدد الحاصل له بالاقتران ، وقبول حكم الاشتراك ، ونحو ذلك من النعوت التي تلحقه بواسطة التعلق بالمظاهر انتهى المراد منه بلفظه ، وقد نقله ببعض حذف منه الجامي في «الدرة الفاخرة».

وفي «لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام» في الكلام على الأمر الوحداني ما نصه : هو المشار إليه بقوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)[القمر : ٥٠] ، وأمره الواحد عبارة عن تأثيره الوحداني بإفاضة الوجود الواحد المنبسط على الممكنات القابلة الظاهرة به ، والمظهرة إياه متعددا متنوعا بحسب ما اقتضته حقائقها المتعينة في العلم الأزلي ، وذلك لأن الحق من حيث وحدة وجوده لا يصدر عنه إلا واحد ؛ لاستحالة إيجاد الواحد من كونه واحدا ما هو أكثر من واحد إلا أن أرباب النظر العقلي من الفلاسفة ، يرون أن ذلك الواحد هو العقل الأول ، وعلى قاعدة الكشف هو الوجود العام ، وينبغي أن تعلم أنه ليس المراد بالعموم أنه كلي ، لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه ، فإن ذلك مما لا يصلح أن يكون موجودا في الأعيان ، بل المراد بالعموم اشتراك جميع الممكنات في أنه هو المفاض عليها ، المضاف إليها ما وجد منها ، وما لم يوجد مما سبق العلم بوجوده ، وهذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود المسمى بالعقل الأول ، وبين سائر الموجودات ؛ إذ ليس ثم إلا الحق والعالم ، العالم ليس بأمر زائد على حقائق معلومة الحق أولا متصفة بالوجود ثانيا انتهى منه بلفظه.

وقد تعرض في «جواهر المعاني» في الفصل الثالث من الباب الخامس نقلا عن شيخه أبي العباس التجاني لإيضاح هذه الوحدة ، وبيانها على مذهب القوم ، وإبطال ما قاله أهل الظاهر من إحالتها ، وإبطال ما ألزموه لمن قال بها ، وهو أنها تستلزم تساوي الشريف والوضيع ، واجتماع المتنافيين والضدين إلى

٤٥

__________________

ـ غير ذلك مما قالوه.

وحاصل كلامه : إن العالم الكبير كذات الإنسان في التمثيل ، وهي إذا نظرت إليها وجدتها متحدة مع اختلاف ما تركبت منه في الصورة والخاصية ، وما ذكروه لا يلزم ؛ لأنه وإن كانت الخواص متباعدة ، والأحكام مختلفة ، فالأصل الجامع لها ذات واحدة كذات الإنسان ، سواء بسواء ، وأيضا فلوحدته وجه ثان وهو اتحاد ذاته في كونه مخلوقا لله تعالى ، وأثرا لأسمائه وصفاته ، فلا يخرج فرد من أفراد هذا العالم عن هذا الحكم ، وإن اختلفت أنواعه ، فإن الأصل الذي برز عنه واحد ، ووجه ثالث ، وهو اتحاد وجوده من حيث فيضان الوجود عليه من حضرة الحق فيضانا متحدا ، ثم اختلفت خواصه وأجزاؤه بحسب ما تفصل ذلك الوجود ، فإنه يتحد في عين الجملة ، ويفترق في حال التفصيل. راجع كلامه ، وراجع أيضا كتاب «الجامع» لابن المشري ، فإنه تعرض فيه أيضا لهذه الوحدة وبيانها نقلا عن شيخه المذكور.

الثالثة : وحدة الوجود الذي به يتحقق حقيقة كل موجود ، وهي وحدة الحق سبحانه ، ومعناها أن الوجود من حيث هو حقيقة واحدة ، وهي لله تعالى وحده لا مشارك له فيها ، فهو الموجود على الإطلاق ، ووجود هذه الكائنات إنما كان باستنادها إليه ، واستمدادها منه ، واستنشاقها لروائح الوجود من وجوده ، وإشراق شعاع وجوده عليها ، فهي موجودة بهذا الوجود الذي له تعالى لا بوجود آخر ثان ، فلم تكن غيرا من كل وجه ؛ لأن الغير في عرفهم هو الذي يكون له الوجود من ذاته ، ويتصور أن يكون له بنفسه قوام ، وهي وجودها ليس من ذاتها ، ولا يتصور أن يكون لها قوام بنفسها.

وقد قال الشيخ الأكبر في كتاب «التجليات» له : من لم يكن له وجود من ذاته فمنزلته منزلة العدم ، وهو الباطل قال : وهذا من بعض الوجوه التي بها يمتاز الحق تعالى عن الخلق ، وهو كونه موجودا أعني وجوده من ذاته انتهى.

كما أنها ليست عينا لما بين التقييد والإطلاق من تقابل التضاد ، وعليه فإثبات الوجود لها توهم ؛ لأنه يتوهم الجاهل بحالها ، وحقيقتها أن لها وجودا وفي الحقيقة ونفس الأمر ما ثم إلا وجوده تعالى ؛ لأن به ظهرت الأشياء كلها ، ولذا قيل :

هذا الوجود وإن تعدد ظاهرا

وحياتكم ما فيه إلا أنتم

أنتم حقيقة كل موجود بدا

ووجودها ذي الكائنات توهم

في باطني من نوركم ما لو بدا

أفتي بسفك دمي الذي لا يعلم

٤٦

__________________

ـ

ولو أنني أبدي سرائر جودكم

قال العواذل ليس هذا مسلم

وفي «الإحياء» في كتاب التوحيد والتوكل في الكلام على قول لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

ما نصه : أي كل ما لا قوام بنفسه ، وإنما قوامه بغيره ، فهو باعتبار نفسه باطل ، وإنما حقيقته ، وحقيقته بغيره لا بنفسه ، فإذا لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء ، فإنه قائم بذاته ، وكل ما سواه قائم بقدرته ، فهو الحق وما سواه باطل انتهى.

وقال القاشاني في «لطائفه» في مبحث التحقيق ما نصه :

التحقيق هو رؤية الحق بما يجب له من الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، قائما بنفسه ، مقيما لكل ما سواه ، وأن الوجود بكمالات الوجود : أي التي هي القوى والمدارك ، إنما هو له تعالى بالحقيقة والأصالة ، ولكل ما سواه بالمجاز والتبعية ، بل تسميته غيره غير أو سوى مجاز أيضا ؛ إذ ليس معه غير ، بل كل ما يسمّضى غيرا ، فإنما هو فعله ، والفعل لا قيام له إلا بفاعله ، فليس هو بنفسه ، ليقال فيه غيرا وسوى ، فكان مرجع التحقيق أن ليس في الوجود إلا عين واحدة ، قائمة بذاتها ، مقيمة لتعيناتها ، التي لا يتعين الحق بها ؛ لاستحالة الانحصار عليه أو التقييد ، فهو تعالى الظاهر في كل مفهوم ، والباطن عن كل فهم ، إلا عن فهم من قال : إن العالم صورته وهويته ، فلهذا صار صاحب التحقيق ، لا يثبت العالم ولا ينفيه : أي لا يثبت العالم إثبات أهل الحجاب ، ولا ينفيه نفي المستهلكين ، فافهم. انتهى منه بلفظه.

فهذا المعنى هو مراد أهل الله بوحدة الوجود ، وبالوحدة المطلقة وغير ذلك من العبارات التي يذكرها العارفون من أهل التحقيق ، وليس مرادهم المعنى الفاسد الذي عند أهل الزندقة والإلحاد ، وقد أنكرته عليهم علماء الأمة ، وقد كشف عن هذا الشيخ عبد الغني النابلسي في رسالة له سمّاها : «إيضاح المقصود عن معنى وحدة الوجود».

وفي «الحكم العطائية» (١) : الكون كله ظلمة : أي عدم صرف بالنظر إلى أصله ، وحقيقة ذاته ، قال : وإنما أناره يعني أظهره ، وأزال ظلمة العدم عنه ظهور الحق فيه : أي تجليه عليه أولا بأنوار الإيجاد ، وتوجهه إليه ثانيا بما يقوم به ، ويدوم به وجوده من أنواع الإمداد ، فلم يكن وجوده لنفسه وذاته حتى يعد وجودا مستقلا ، وإنما كان وجوده تعالى ، وبظهور هذا الوجود في الأشياء ظهرت ، وبإشراق شعاعه عليها أشرقت على حسب ما تقتضيه طبائعها وقابليتها ، واستعداداتها الثابتة في العلم ، ثم قال في الحكم ، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده أعوزه وجود الأنوار ، وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار يعني أن من نظر إلى الكون ، ولم يشهد الحق

٤٧

__________________

ـ تعالى ببصيرته فيه ، أو عنده أو معه كما هو حال أهل التوسط الذين يرون الله في الأشياء ، أو عندها أو معها ويقولون : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيه أو عنده أو معه أو يشهده قبله ، كما هو حال أهل الشهود والعيان الذين يرون الأشياء بالله ، ويقولون : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله أو يشهده بعده ، كما هو حال أهل الدليل والبرهان الذين يرون الله بالأشياء ، ويقولون : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله بعده ، كان معدودا من أهل الظلام ، محجوبا عن الله تعالى بسحب الكون أو الجهل والغفلة والآثام ، ومن شهده في كل شيء أو عنده أو معه أو قبله أو بعده أو فيه ، وعنده ومعه وقبله وبعده كان من أهل الأنوار ، وممن لم تنحجب عنهم شموس المعرفة بسحب الآثار ، ومن زال عنه الوهم والعناء ، وكان في مقام المحو والفناء ، وغلب عليه شهود الوجود الحق الحقيقي ، الذي به كل شيء موجود يرى الله وحده ، ولذا ينفي ما عداه ، ولا يثبت شيئا سواه ، ويقول : ما رأيت شيئا سوى الله.

ومن قول بعضهم في الدار غيره ديار وقول آخر سوى الله والله ما في الوجود ويقول عما سواه أنه ظل ، وأنه خيال ، وأنه سراب ، وأنه هالك ، وأنه مضمحل زائل أو لا وجود له أصلا ، وهو صادق في ذلك كله ؛ لأن وجود ما سوى الحق إنما هو بالفرض والتقدير ، أو الوهم والتخييل ، والوجود الحق الحقيقي إنما هو وجوده تعالى ، ووجود ما عداه بوجوده لا بوجود آخر ، مما عداه ليس له من نفسه وجود أصلا ، فهو بالنظر إلى نفسه عدم صرف ، وبالنظر إلى إشراق شعاع الوجود المطلق عليه كالظل له تابع له ، والتحقق بهذا المعنى هو زبدة التوحيد ، وعمدة أهل التفريد ، وفي ذلك يقول قائلهم :

الله قل وذر الوجود وما حوى

إن كنت مرتادا بلوغ الكمال

فالكل دون الله إن حققته

عدم على التفصيل والإجمال

واعلم بأنك والعوالم كلها

لولاه في محو وفي اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته

فوجوده لولاه عين محال

فالعارفون فنوا ولما يشهدوا

شيئا سوى المتكبر المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكا

في الحال والماضي والاستقبال

وقد حكي عن الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله.

وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله بعده.

وعن عثمان رضي الله عنه أنه كان يقول : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله معه.

٤٨

__________________

ـ وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقول : لا نعبد ربا لم نره يعني لم نشهده.

وفي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان الله ولا شيء معه ، وكان الله وحده بلا شيء».

وفي «الإحياء» في كتاب المحبة والشوق في ترجمة بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى ما نصه :

وأما من قويت بصيرته ولم تضعف منته : أي قوته ، فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله تعالى ، ولا يعرف غيره ، ويعلم أنه ليس في الوجود إلا الله تعالى ، وأفعاله أثر من آثار قدرته ، فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة دونه ، وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها ، ومن هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ، ويذهل عن الفعل من حيث أنه سماء وأرض وحيوان وشجر ، بل ينظر فيه من حيث أنه صنع الواحد الحق ، فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره ، كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه ، ورأى فيها الشاعر والمصنف ، ورأى آثاره من حيث أنه أثره لا من حيث أنه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض ، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف ، وكل العالم تصنيف الله تعالى ، فمن نظر إليه من حيث أنه فعل الله ، وعرفه من حيث أنه فعل الله وأحبه من حيث أنه فعل الله ، لم يكن ناظرا إلا في الله ، ولا عارفا إلا بالله ، ولا محبّا إلا الله ، وكان هو الموحد للحق الذي لا يرى إلا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه ، بل من حيث أنه عبد الله ، فهذا هو الذي يقال فيه : إنه فني في التوحيد ، وإنه فني عن نفسه أيضا ، وإليه الإشارة بقول من قال : كنا بنا ففنينا عنا ، وبقينا بلا نحن. انتهى منه ، وقد نقله السيوطي أيضا في «تأييد الحقيقة العلية».

وفي كلام بعض العارفين أبى المحققون أن يشهدوا غير الله ، لما حققهم به من شهود القيومية ، وإحاطة الديمومية.

وقال بعضهم : لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع ؛ فإنه لا غير معه حتى أشهده معه.

ومن كلام مولانا عبد السّلام بن مشيش لوارثه أبي الحسن الشاذلى : حدد بصر الإيمان تجد الله تعالى في كل شيء ، وعند كل شيء ، ومع كل شيء ، وقبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، وفوق كل شيء ، وتحت كل شيء ، وقريبا من كل شيء ، ومحيطا بكل شيء بقرب هو وصفه ، وبحيطة هي نعته ..

إلى آخر ما قال.

وقال بعض العارفين : الحق تعالى منزّه عن الأين والجهة والكيف والمادة والصورة ، ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان ولا كم ولا كيف ولا جسم ولا جوهر ولا عرض ؛ لأنه للطفه سار في كل شيء ، ولنورانيته ظاهر في كل شيء ، ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف ، غير متقيد بذلك ،

٤٩

__________________

ـ ومن لم ير هذا ولم يشهده فهو أعمى البصيرة ، محروم من مشاهدة الحق انتهى.

ومن كلام القطب سيدي علي وفا رضي الله عنه :

هو الحق المحيط بكل شيء

هو الرحمن ذو العرش المجيد

والنور المبين بغير شك

هو الرب المحجب في العبيد

هو المشهود في الأشياء يبدو

فيخفيه الشهود عن الشهيد

هو العين العيان لكل غيب

هو المقصود من بيت القصيد

جميع العالمين له ظلال

سجود له في القريب وفي البعيد

وهذا القدر في التحقيق كاف

فكف النفس عن طلب المزيد

واعلم أن الإيمان بالله هو التصديق الجازم بوجوده أولا ، وبوحدانيته ثانيا ، وباتصافه بصفات الكمال اللائقة به ثالثا ، وبتقديسه عن سمات الحوادث رابعا ، وهذا التصديق له مراتب ذكر في «القوت» و «الإحياء» أنها ثلاثة وهي في الحقيقة تسعة لأن كل مرتبة من المراتب الثلاث منقسمة إلى ثلاثة ، وذكر الغزالى في آخر كتابه : «إلجام العوام» ستة منها وهي أقسام المرتبتين الأوليين ، وأما المرتبة الثالثة فذكرها بأقسامها في كتابه «مشكاة الأنوار» ، ونحن إن شاء الله تعالى نذكر خلاصة المرتبتين الأوليين مع التوسع في المرتبة الثالثة ؛ لأنها المقصودة هنا.

فنقول المرتبة الأولى : مرتبة إيمان العوام ، وهو إيمان التقليد المحض.

وفيها ثلاث مراتب لأنه :

١ ـ إما أن يكون مستندا إلى السماع ممن حسن فيه الاعتقاد بسبب كثرة ثناء الخلق عليه كالعلماء والأولياء.

٢ ـ أو إلى أمارة يظنها العامي دليلا كالقرائن الشاهدة له.

٣ ـ أو غير مستند إلى شيء أصلا كأن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه فيبادر إلى التصديق به لمجرد موافقته لطبعه.

وهذه أضعف التصديقات لأنه فيما قبله استند إلى دليل ما وإن كان ضعيفا.

المرتبة الثانية : مرتبة إيمان المتكلمين وهو الإيمان الممزوج بنوع من الاستدلال وفيها أيضا ثلاث مراتب لأنه :

١ ـ إما أن يكون حاصلا بالبرهان المحرر المستقصي لشروطه بأصوله ومقدماته.

٢ ـ أو بالأدلة الرسمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لاشتهارها بين أكابر العلماء وشناعة إنكارها.

٥٠

__________________

ـ ٣ ـ أو بالأدلة الخطابية التي جرت العادة باستعمالها في المحاورات والمخاطبات الجارية في العادات.

المرتبة الثالثة : مرتبة إيمان العارفين ، وهو المشاهد بنور اليقين وفيها أيضا ثلاث مراتب.

الأولى : مشاهدة أن الوجود كله لله وأنه لا شريك له فيه أصلا لأن كل ما سواه إذا اعتبرت ذاته فهو من حيث ذاته لا وجود له بل وجوده مستعار من غيره ، ولا قوام لوجود المستعار بنفسه بل بغيره ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض فإذا انكشفت هذه الحقيقة للعبد بنور اليقين علم أن الوجود كله له تعالى لا مزاحم له فيه أصلا وأن نسبته لغيره مجاز لا حقيقة.

الثانية : ترقى أصلها من حضيض المجاز إلى ارتفاع الحقيقة واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله وأن كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا لا يتصور فيه إلا ذلك لا أنه يصير هالكا في وقت من الأوقات لأن كل ما سواه إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم صرف ، وإذا اعتبرت من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول فهو موجود لا من وجهه وذاته ، بل من الوجه الذي يلى موجده فيكون الموجود هو وجه الله فقط وحينئذ فلكل شيء وجهان وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه فهو باعتبار وجه نفسه عدم ، وباعتبار وجه ربه موجود ، فإذا لا موجود إلا الله ووجهه كما قال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)[القصص : ٨٨] يعني فليس بهالك.

وهؤلاء يفتقروا لقيام القيامة ليسمعوا نداء الباري لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ، بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبدا ، ولم يفهموا من معنى قوله الله أكبر أنه أكبر من غيره حاش الله إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه ، بل ليس لغيره رتبة المعية ، بل رتبة التبعية ، بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه ، فالوجود وجهه فقط ، فمحال أن يكون أكبر من وجهه ، بل معناه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة ، وأكبر أن يدرك غيره كنه كبريائه نبيا كان أو ملكا بل لا يعرف كنهه إلا هو تعالى.

الثالثة : أهلها بعد ما عرجوا إلى سماء الحقيقة ، ولم يروا في الوجود تحقيقا إلا الواحد الحق وأفعاله ، لكن منهم من كان له هذا الحال عرفانا علميا ، ومنهم من صار له ذلك ذوقا حاليا ، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية استغرقوا في الفردانية المحضة واستلبت فيها عقولهم ، فصاروا كالمبهوتين فيها ، ولم يبق فيهم متسع لذكر غير الله ، ولا لذكر أنفسهم أيضا ، فلم يكن عندهم إلا الله ، فسكروا سكرا وقع دون سلطان عقولهم ، فقال أحدهم : أنا الحق.

وقال الآخر : سبحاني ما أعظم شانى.

وقال الآخر : ما في الجبة إلا الله.

٥١

__________________

ـ وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى ، فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في الأرض عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد ، بل يشبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه : أنا من أهوى ، ومن أهوى أنا.

وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة فناء ، بل فناء الفناء لأنه فني عن نفسه ، وفني عن فنائه ، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ، ولا بعدم شعوره بنفسه ، ولو شعر بعدم شعوره كان قد شعر بنفسه وتسمى هذه الحالة بالنسبة إلى المستغرق بها بلسان المجاز اتحادا وبلسان الحقيقة توحيدا وانظر : «مشكاة الأنوار» لأبي حامد الغزالى ، و «شرح الإحياء» للشيخ مرتضى الزبيدي في أول نصفه الثاني وفي مبحث السماع.

وفي «لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام» للقاشاني بعد ما ذكر فيه الاتحاد وأنه يطلق ويراد به عدة معاني ما نصه : ومنها أن يراد بالاتحاد جميع الموجودات في الوجود الواحد من غير أن يلزم من ذلك ما يظن من انقلاب الحقائق أو حلول شيء في شيء ، بل المراد من ذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه لا حقيقة له إلا بالحق سبحانه بمعنى أن الوجود الذي صار به كل موجود موجودا إنما هو الوجود الواجب ، وهذا منكر عند أرباب العقول المحجوبة بظلمة الأكوان ، فإنهم لا يشاهدون وجهه تعالى في الأشياء لوقوفهم معها ، وإلى وحدة الوجود المشترك بين جميع الماهيات المتكثرة أشار الأكابر بقولهم الوحدة للوجود والكثرة للعلم أي للمعلومات فإنها هي التي كثرت الوجود الواحد المظهر لها بها انتهى منه بلفظه.

وفيها أيضا ما نصه : وحدة الوجود ، يعني به عدم انقسامه إلى الواجب والممكن وذلك أن الوجود عند هذه الطائفة ليس ما يفهمه أرباب العلوم النظرية من المتكلمين والفلاسفة ، فإن أكثرهم يعتقد أن الوجود عرض ، بل الوجود الذي ظنوا عرضيته هو ما به تحقق حقيقة كل موجود ، وذلك لا يصح أن يكون أمره غير الحق عز شأنه انتهى المراد منه بلفظه أيضا.

وقال السعد في شرح المقاصد بعد أن أبطل الحلول والاتحاد ما نصه : وها هنا مذهبان آخران يوهمان الحلول والاتحاد وليسا منه في شيء.

الأول : السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله ، وفي الله استغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته ويغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله ، وهذا الذي يسمونه الفناء في التوحيد ، وإليه يشير الحديث الإلهى :

«فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر به».

وحينئذ فربما صدرت منه عبارات تشعر بالحلول والاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال ، وتعذر

٥٢

أمّا الوجود الواجبي : فما دلّ عليه كلمة لا إله إلا الله ، وإمّا الوجود الإمكاني : فما دلّ عليه كلمة محمد رسول الله ، فإذا لم يكن في البين ما يوهم الشركة ؛ لم يحتج إلى التمييز ؛ فإن التمييز إنما هو بين الشيئين ، فشيء واحد لا يمكن تمييزه لبساطته ، انصرف هذا عند المحققين.

وأمّا عند غيرهم فلابد من النقاط ، وتعدد الحروف ، إمّا حقيقة أو ضمنا ، فعالم الإمكان مملوء حروفه من النقاط ؛ وهي الحروف الإضافية بخلاف الحروف الحقيقية ، ولا يعرفها إلا الكمّل الغائصون في بحر الذات الأحدية.

فقولنا : لا إله إلا الله ، كما أنه يفيد معنى قولنا : لا معبود بحق إلا الله ، فكذا قولنا : محمد رسول الله يفيد معنى قولنا : لا رسول الله إلا محمد ؛ فهذا الانحصار أهو حقيقي أم إضافي؟ مفوّض علمه إلى أهله ، فعليك بالتوحيد ؛ فإن به يحصل إسقاط الإضافات والقيود.

وأمر بالقول في قوله : (فليقل : لا إله إلا الله) ؛ لأن الحلف المذكور كان رشحة من رشحات الباطن خرجت من الباطن إلى الظاهر ، فكان من حق القول مقابلته بالقول ؛ ليدل الإسلام على الإيمان ، كما دلّ عدم الإيمان على عدم الإسلام ، فاعرف جدا ، وفيه ترغيب في الحضور مع الله ولو في حال الفسق ، فإنه يجر إلى الصلاح إن شاء الله تعالى.

وكان بعض العلماء يشرب الخمر ، ويتوب بعد كل قدح ، وكان يتعجب من حضوره بعض أهل الله حتى آلى أمره إلى التوبة الحقيقية ، والنجاة الكلية ، فكان من المقربين.

__________________

ـ الكشف عنه بالمقال ، ونحن على ساحل التمني نغترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان ، ونعترف بأن طريق غيرنا فيه العيان دون البرهان.

الثاني : إن الواجب هو الوجود المطلق وهو واحد لا كثرة فيه أصلا وإنما الكثرة في الإضافات والتعينات التي هي بمنزلة الخيالات والسراب إذ الكل في الحقيقة واحد يتكرر على الظاهر لا بطريق المخالطة والانضمام ويتكثر في النواظر لا بطريق الانقسام ولا حلول هنا ولا اتحاد لعدم الاثنينية والغيرية انتهى على نقل شارح الإحياء والله أعلم. انتهى.

٥٣

ومن هذا القبيل كان فضيل بن عياض ؛ فإنه كان كلما قطع الطريق في أوائل حاله ، يقيد مقدار المال في دفتر ، واسم صاحبه وبلده حتى وفقه الله للتوبة ، وخرج عن عهدة الحقوق كلها ، فانظر إلى الربّ الكريم بماذا يعامل العبد من القرب ، وهو في بعده بعد؟ ومنه الرشاد لجميع العباد.

واعلم أن مرتبة الألوهية المفهومة من لا إله إلا الله ، ومرتبة العبودية الملحوظة من محمد رسول الله مرتبة واحدة في الحقيقة ، وإنما تميّزت إحداهما عن الأخرى بالتعينات والتنزلات.

ألا ترى أن هاء الجلالة هاء هوية غيبية بالنسبة إلى الله تعالى ، فإذا مدّ طرفه ظهر شكل الميم المحمّدي الذي هو شكل مرتبة الشهادة ؛ ولذا قارن الهاء الجلالي بالميم الجمالي ، إشارة إلى الارتباط بينهما ، وأنهما لا تمايز بينهما إلا المدّ المذكور وهو البسط الشهادي.

فمرتبة المحمّدية : مرتبة الرسالة الشهادية.

ومرتبة الأحمدية : مرتبة النبوية الغيبية الإضافية ، وفوقها مرتبة الأحدية الإطلاقية بطي الميم الإمكاني من البين ، فمحمد أحمد ، وأحمد أحد ، فقد تنزّل الأحد إلى مرتبة العقل الأول ، فكان أحمد ، وإلى مرتبة الشهادة ، فكان محمدا.

فإذا لا طريق إلى الله تعالى إلا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميع تعيناته ، وهو العلم في صورة العين ، والجمع في صورة الفرق والغيب ، والغيب في صورة الشهادة ، ومنها يعلم أن كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم طريقا إلى الله تعالى إنما هو بالنسبة إلى المحجوب عن الجمع في الفرق ، وأمّا المكاشف الواجد فهو في عين الحقيقة.

ألا ترى أن داخل الحرم الإلهي لا يحتاج إلا آلة يعرف بها القبلة ؛ لحضور القبلة عنده ، فمعنى أن الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق أن كل نفس من أنفاس السالك طريق موصل إلى الله.

وأمّا الواصل فكل نفس منه ؛ إنما هو الله فهو في كل نفس في عين الهويّة ولمّا كان مقام الإطلاق الأحدي الذاتي الذي تفرّد به السابقون لا ينال إليه أصحاب التقييد إلا بإثبات طرق شتى من الأسماء الإلهية الجزئية ، تشعبت الطرق الحقة السالكة بالأسماء الاثنى عشر ، وذلك لم يكن في الصدر الأول بحسب المعنى.

٥٤

ثم لمّا كثر القاصرون عن إدراك الحقائق ، وتأخّروا عن الرياضات والمجاهدات التي عليها الصحابة والتابعون ؛ توسلوا إلى البواطن ، والحقائق بالأسماء ، والظواهر ؛ فكان الطريق الجلوني بالجيم خاتمة الطرق على سرّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«نحن الآخرون السابقون» (١) ؛ فكان حال أهلها حال الصدر الأول في الاتّباع النبوي في الرياضة ، والمجاهدة من غير شغل كثير بالأسماء ؛ لأن هذا الشغل يطوّل الطريق إلى الله ، ويبعد المطلوب ، فيحتاج الطالب إلى أزمنه متطاولة إلى أن يخرج عن دوائر الأكوان ؛ لأن الأسماء الإلهية ناظرة إلى الحقائق الكونية ، ولا نهاية لفروع هذه الحقائق ، وربما لا يجد إلى من يشير إليه بالترقّي في المراتب الأسمائية ، فيبقى في البرزخ واقفا لا إلى وراء ولا إلى قدّام ؛ بل ربما يستحلي مقاما من المقامات الأسمائية ، فيظن أنه لا غاية وراءه ؛ فينقطع عليه الطريق.

ومن ثم قالوا : إن الآلام في هذه الطريقة أولى من اللذات ، ومن تقيّد باللّذّة قبل الوصول إلى المطلوب ؛ وقع في الألم في آخر الأمر ، فليكن أول فتوحاتك كشف سر الحياة السارية في جميع العوالم ، ثم الوصول ، ثم الوصال في مرتبة أو أدني الأحدية مع جميع مرتبة قاب قوسين الواحدية ، وقد رأينا من معاصرينا من يدّعي الأسرار في مراتبها ، وقد استمر من أول عمره إلى آخره على حالة واحدة إلى أن مات على تلك الحال ، والحكمة الإلهية لا تقتضى في أربعين سنة إلا الاستكمال من جميع الوجوه.

إن كان السالك مستعدا ؛ فيرجع بعد تلك المدة التي هي النهاية إلى البداية ، وإلا فلم يصلح حال العمر الكثير ، إذ من لم يهد الله ما له من هاد ، وربما يقع الفتنة بين الخلوتية بالخاء المعجمة ، وبين الجلوتية بالجيم من عدم تسليم أحديهما الأخرى ، وأمّا نحن فنقول : إن الجلوة بالجيم لا تحصل إلا بعد الخلوة ؛ فهي نهاية الخلوة.

فمن وصل من الخلوتية بالخاء المعجمة إلى نهاية المراتب ؛ فهو خلوني بالاسم ، جلوني بالمعنى ، ومن لم يصل من الجلوني بالجيم إلى غاية الغايات ؛ فهو جلوتي بالاسم ، خلوتي بالمعنى ، ؛ إذ لم يظهر بعد بالأوصاف الإلهية في مرتبة البقاء فكيف يكون

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٩٤) ، ومسلم (٢ / ٥٨٦).

٥٥

جلوتيا؟ فله شرف الاسم المجرد فقط ، فليلازم الباب إلى أن يفتح الله عليه ما أراد.

ويكون جامعا بين الخلوة والجلوة ، حافظا لحقوق الأسماء الليلية ، والتوحيد النهاري ؛ فذلك تجلّ واستتار ؛ بل تجلّ في عين الاستتار أبدا.

١٨ ـ في صحيح البخاري : «من رآني ؛ فقد رأى الحق» (١) :

معناه الظاهري : من رآني في المنام ؛ فقد رأى الرؤيا الحقة الصادقة (٢).

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٥٦٨) ، مسلم (٤ / ١٧٧٥).

(٢) أي : رأى الله على قول بعض أهل الإشارات حيث جعل رؤية العبد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقظة أو مناما رؤية للحق سبحانه.

ولما كان قيامه بحق التجليين تجلي الذات وتجلي الصفات ، وتوفيته بأدائهما عبّر عن ذلك في الصلاة البكرية بقوله : (عبدك من حيث أنت كما هو عبدك من حيث أسماؤك وصفاتك).

وقوله : بالحق : أي بذاته لا بشيء دونها ، بتجليه له كان عن الذات العلية لا عن غيرها. ذكره في الجواهر والرماح.

وما أخرجه الترمذي وقال حسن غريب عن جابر قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا يوم الطائف فانتجاه فقال الناس : لقد طال نجواه مع ابن عمه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما انتجيته ولكن الله انتجاه». حيث جعل انتجاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي انتجاء منه تعالى له.

ولهذا نظائر في الكتاب والسنة ينزل الحق تعالى فيها عبده حالة قيام بعض الأوصاف والحالات به منزلة نفسه ويضيف أوصافه وحالاته إليه حتى كأنها حالة به وهو المنزه عن اتحاده بغيره أو حلوله به أو قيام أوصاف خلقه به تعالى عن ذلك علوا كبيرا وإنما ذلك كله إشارة إلى مظهريته تعالى عن ذلك وتجليه في خلقه فيصير العبد مرآة لظهور ذاته تعالى وصفاته من غير اتحاد به ولا حلول فيه ولا تشبيه ولا تكييف ولا تغير لذاته العلية عما هي عليه من التنزيه بل على حسب ما يليق به ويعلمه هو سبحانه ، ومعلوم أن أكمل مظاهره تعالى وأعلاها على الإطلاق مظهريته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو المظهر الأتم والمجلى الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلذا كان في مجاز القول هو هو وكانت ذاته من ذات الله وأوصافه من أوصافه وبيعته بيعة الله وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله وحكمه حكم الله وأمره كله أمر الله ومن انتجاه فقد انتجاه الله فأي تمليك أعلى من هذا وأي تحكيم أرفع منه وأي استخلاف يصل إليه ، وقد عد في تحفة الأخيار من أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المبايع» أخذا من هذه الآية ثم قال في تفسيره ما نصه : وأما المبايع فلقوله تعالى :

٥٦

وقد جاء في بعض الأحاديث : «فإن الشيطان لا يتمثّل بي» (١) ؛ وذلك لأن الشيطان مظهر الاسم المضل بالفعل ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مظهر الاسم الهادي بالفعل ، فلا يظهر أحدهما في صورة الآخرة صونا للحقائق ، وضبطا للمراتب.

وأمّا الله سبحانه وتعالى فهو وإن لم يكن له مثل ، كما دلّ عليه قوله تعالى :

__________________

ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] وقد أخذ الله تعالى العهد والميثاق على جميع النبيين لئن جاءهم ليؤمنن به ويتبعوه وينصروه ، وأخذوا العهد بذلك على أممهم فقد بايعه الناس أجمعون من السابقين واللاحقين قال : ولم أر من ذكر هذا في الأسماء.

وقال الأستاذ أبو القاسم القشيرى في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ)[الفتح : ١٠] أي عقدك عليهم هو عقد الله يعني المبايعة مفاعلة من البيع لأن (اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[التوبة : ١١١] ثم قال : وفي هذه الآية تصريح بعين الجمع كما قال (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)[الأنفال : ١٧].

قال شيخ شيوخنا أبو محمد عبد الرحمن أي ابن محمد الفاسي يعني وكما في حديث : فإذا أحببته كنت سمعه ويديه وسائر قواه الذي هو سر الخلافة والبقاء بالله. والله أعلم. وقال الإمام الورتجيى في الآية المذكورة صرح تعالى بأنه عليه‌السلام مرآة ظهور ذاته وصفاته كما أشرنا يعني في قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً)[الأحزاب : ٤٥] وهو مقام الاتصاف والاتحاد بأنوار الذات والصفات في نور الفعل فصار هو هو إذ غاب الفعل في الصفة وغابت الصفة في الذات وإلى ذلك يشير الحلاج وغيره.

وقال الشيخ أبو طالب المكي في كتابه القوت هذه أن آية في كتاب الله عزوجل ، وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه جعله في اللفظ بدلا عنه وفي الحكم مقامه ، ولم يدخل بينه وبينه كاف التشبيه فيقول كأنما ولا لام الملك فيقول لله ، وليس هذا المقام من الربوبية لخلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى كلام صاحب تحفة الأخيار بلفظه.

وفي الإلمام والإعلام بنقله من بحور علم ما تضمنته صلاة القطب مولانا عبد السّلام للشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن زكرى الفاسي ما نصه : قال الورتجيى في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ)[الفتح : ١٠] جعل نبيه مرآة لظهور ذاته وصفاته وقال في قوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ)[الفتح : ٩] أي ليشاهدوا بأسرارهم الله ويدركوك في محل الجلال والجمال ويعرفوا قدرك في قدرى وقدرى في قدرك حيث صرت مرآتى أتجلى منك لهم لذلك قال عليه الصلاة والسّلام من رأني فقد رأى الحق انتهى.

(١) رواه مسلم (٤ / ١٧٧٥) ، والترمذي (٤ / ٥٣٥).

٥٧

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، وذلك في مرتبة ذاته الأحدية ؛ لكن له مظاهر من حيث أسمائه المختلفة ، وصفاته المتفاوتة ، ومن ذلك الاسم المضل الذي ظهر الشيطان بحقيقته فدلّ على أن الشيطان ظهر في صورة الحق من حيث اسمه المضلّ ، كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر في صورة الحق من حيث اسمه الهادي (١).

فلله تعالى أن يتجلّى بكل صورة من الصور الأسمائية من غير مزاحمة ؛ لأن له الإحاطة التامة بالكل بالفعل.

وأمّا الشيطان : فله الإحاطة بجزئيات الاسم المضلّ ، بالفعل وبالاسم الهادي وجزئياته بالقوة.

وأمّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فله الإحاطة بجزئيات الاسم الهادي بالفعل ، وبجزئيات الاسم المضل بالقوة ؛ لأن له الاسم الجامع ؛ لكن فرق بين القوة والفعل.

ولذا يقال : إن النفس لأمّارة بالسوء : أي بالفعل في المظاهر الجلالية ، وبالقوة

__________________

(١) الهادي : هو الذي يوصل من يشاء من عباده إلى معرفة ذاته وصفاته ، ويدل من يشاء منهم إلى حسن معاده ، وإلى ما لا بد منه في قضاء حاجاته ، والهداية الصادرة في الظاهر من الأنبياء وورثتهم الأولياء صادرة في الحقيقة منه سبحانه تعالى على ألسنتهم بوحيه وإلهامه إليهم ؛ لكونهم مسخّرين تحت قدره وتدبيره غير مستقلين في الإرشاد وتأثيره.

ألا ترى أنه إذا كان خطاب لا تهدي من أحببت مع المحبوب ، فكيف حال غيره في الإيصال إلى المطلوب؟ فإن شئت تحقيق معنى الهداية وتدقيقه على النهج الغريب والأسلوب العجيب ، فارجع إلى ما حققناه في شرح الحاشية الزاهدية على جلالية التهذيب ، وها هنا في هذا القدر كفاية ، وحظ العبد منه أن يهدي العباد إلى طريق الرشاد بقدر استطاعته ومقدار استعدادهم في الاسترشاد.

الخواص : هذا الاسم جمالي ، فمن أكثر من ذكره كان موفقا في أعماله ، وأقواله ، وأفعاله الظاهرة والباطنة ، وتزايد نور قلبه وهداه الله تعالى إلى سرائره ومعرفته ، ومن دخل في بيت مظلم ، وقال : (يا هادي اهدني) إلى أن يغلب عليه منه حال ، فإنه يرشد إلى مطلوبه ، وإذا أكثر من ذكر مالك أطاعته البلاد ، وانقادت إليه أمور العباد ، ومن وضعه في خاتم فضة والقمر في شرفه ، وتمتم به وفقا للأعمال الصالحة ، ومن اشتبه عليه أمر من الأمور ، ولا يعرف خيره من شره ، فليتوضأ وليصل ركعتين في كل منهما بعد الفاتحة آية الكرسي والإخلاص ، وذكر هذا إلى أن ينقطع النفس أو عشرة آلاف مرة فيهتدي إلى ما هو الخير في دينه ودنياه ، وفيه معنى بديع لمن أراد أن يرتقى بروحه إلى عالم البقاء من السالكين.

٥٨

في المظاهر الجمالية ، وإلا لما كانت الحقيقة الإنسانية أجمع الحقائق الكونية والإلهية ، وكما أن الشيطان لا يتمثّل بصورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن من رآه بهيئته الأصلية ، فقد رآه في الصورة الخيالية المتصلة بصورته الحقيقية ، فافهم جدا.

فكذا لا يتمثّل في صور المظاهر الجمالية من أكامل الإنسان ؛ لأنهم خلفاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونوابه ، والخليفة لا يظهر إلا في صورة المستخلف ، فمن رأى واحدا منهم بحليته الذاتية ؛ فقد رآه تحقيقا ، وإن كان لا يدري المرء أنه ظهر للرائي ؛ وذلك لأن ظهوره للرائي إنما هو بالواسطة : أي بالصورة الخيالية التي تحكم على الرائي في المنام أو الانسلاخ ؛ لأنها هي الصورة البرزخية ، وقلّ من تفطّن لهذا المقام من العارفين.

وأمّا المعنى الحقيقي للحديث فهو : إن من رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ، أو في اليقظة ؛ فقد رأى الحق سبحانه وتعالى ؛ لأن الله تعالى خلق آدم على صورته ؛ وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل أفراد آدم ، فقد خلقه على صورته الحقيقية الأسمائية والصفاتية ، فمن رآه ، وهو مظهر تام الحقائق جميع الأسماء والصفات ؛ فقد رأى الحقيقة الإلهية متجلية بجميع الحقائق.

وكذا من رأى خليفة من خلفائه ونوابه ؛ فقد رآه ؛ لأنه صورة من صورة الكلية ؛ وبوساطة رؤيته رأى الله تعالى ، فالله تعالى مرئي أبدا في الصورة المحمّدية الكلية الصورة الإنسانية ؛ ولكن المحجوبين لا يرونه في عين رؤيتهم ؛ لاحتجابهم بأنفسهم عنه ، ولو كوشفوا عن حقائقهم لرأوا أن حقائقهم عين الحقيقة المحمّدية ، ولو من وجه الجزئية ، كما أن الحقيقة المحمّدية عين الحقيقة الإلهية من وجه الكلية ؛ لأن لم يكن في الإمكان أبدع مما كان ، فالله تعالى ظاهر لأولي الأبصار ، باطن عن أعين الأغيار ، وليس في البين إلا حجاب الغفلة.

١٩ ـ في حديث مسلم : «من سأل الناس أموالهم تكثّرا ؛ فإنما هي جمر ؛ فليستقل منه ، أو ليستكثر» (١) :

اعلم أن سؤال الأموال عن الناس على أنحاء شتى كل منها حرام إذا كان على وجه التكثير لا للاحتياج في الحقيقة ؛ لأن فيها إذلالا للنفس ، ورفعا لجلباب الحياء ،

__________________

(١) رواه مسلم (٢ / ٧٢٠) ، وأحمد في المسند (٢ / ٣٢١).

٥٩

وشكاية من الله ذي النوال ، وإظهار للحرص والطمع ، وتحريضا للناس على المنكر الذي هو السؤال بلا ضرورة ، وحملا للمعطي على الحرام ؛ فإنه إذا كان بطريق الصدقة لا بطريق الهبة ؛ كان إعانة على المعصية ، فمن تلك الأنحاء والوجوه السؤال ؛ كسؤال السائلين.

ومنها : التعريض لا التصريح ؛ فإنه أيضا حرام ، ومن ذلك التفقر عند الأكابر والأغنياء ؛ فإنه في حكم السؤال.

ومنها : دور الأبواب ، والمدّروزون ملعونون ، كما يفعله كثير من الناس خصوصا منهم من يدّعي العلم أو الطريقة ؛ فيدخل أبواب الأكابر ، ورجال الدولة ؛ وهو على هيئته جلبا لأموالهم ؛ بل ربما يسأل عنهم ولو بطريق المزاح.

ومنها : الإقدام على فعل في محضر الناس ، ووجوه القوم لا يفعله في الخلوات ؛ كالتواجد ليظن الخلق أنه من أرباب الأحوال ، فيحسنوا الظن به ويعطوه الأموال.

ومنها : الرياء بصفرة الوجه والصوم ونحو ذلك ، يسأل الزكاة والصدقات بسبب اعتقاد الناس كونه من الصلحاء ، أو كونه من الفقراء ، وعلى هذا فقس سائر الوجوه المستشعة ، وإلحقها به ، وتجنب عن أصحابها ، واعتصم بالله ، وتوكّل على الله ، واجتهد حتى لا يراك الله حيث نهاك.

ولقد كثر في زماننا هذا وجوه المنكرات بحيث لا تعد ولا تحصى ، وربما تلاقي شخصا ذا هيئة رفيعة وهو يفتخر بالانتساب إلى فلان وفلان ، ويدّعي محبته إليه ، وهو غافل عن الله تعالى ، وعن قوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : ٥٨] : أي ما يجمعه الكفار ، ومن في حكمهم من الغافلين ، فإن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وإن رزق آل محمد إنما كان كفافا ، وإن الفقر أرجح عند الله من الغنى ؛ ولذا لم يكن السلف إلا على التعفف والورع والقناعة والتوكل ونحو ذلك.

وقالوا للدنيا : حبلك على غاربك.

فكانوا أغنياء ؛ بل ملوكا تحت الأطمار ؛ ولأن الغنى إنما هو بال ، له فعليك به قبل يوم فقرك.

٦٠