مرآة الحقائق - ج ١

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ١

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٣٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي أوضح الطريق لسلوك عباده إليه ، وفتح باب دعوته لدخول أوليائه عليه ، واختصهم لحضرته ؛ فمن مجالس ومؤانس وقائم بين يديه ، كل ذلك ضربا للأمثال ليفهموا ، ولا يصل الفهم ولا العقل إليه ، تعرف لهم ، فبه عرفوه ، ووصف لهم ذاته العلية فبالوصف الذي وصفها لهم به وصفوه ، وطهر قلوبهم من الأغيار ، فما أنسوا بغيره ولا ألفوه ، وخرق أسماع قلوبهم خطابه فأسكرهم بلذيذ ذلك الخطاب ، وتجلت لهم صفات جماله فذهلت منهم العقول وطاشت منهم الألباب ، وأسطلهم الدّهش ، فحاروا وعجزوا عن رد الجواب ، فلو لا ثبتهم في ذلك المقام وردهم بعد الصحو والاصطلام ، فلاطفهم بلطائف ذلك الكلام لصار بناؤهم إلى الانهدام واندرست تلك الرسوم والأعلام ، ولسارع على وجودهم الاضمحلال والانعدام.

وبعد ...

فهذا كتاب مرآة الحقائق لسيدي إسماعيل حقي ـ قدس الله سره ـ من أعظم مصنفاته بعد التفسير «روح البيان» حيث جمع فيه كاتبه من واردات الشيخ في القرآن والحديث ، والخواطر والأحوال ، ما عظم أمره ، وجلّ قوله.

فكان الشيخ المصنف تابعا متحققا بمدرسة الشيخ الأكبر ـ قدس الله سره ـ فانطبع ذلك عليه في كتبه ، فخرجت يفيح منها المسك الأذفر ، ويبدو عليها خاتم الختم والكبريت الأحمر ، فكانت نقية صافية لما قبلها صاحب السر الأطهر.

وهذا الكتاب أصوله من محفوظات ـ دار الكتب المصرية ـ ويعتبر من نوادر المخطوطات ، كانت أوراقه متناثرة ، ومبعثرة ، وبها الكثير قرابة الربع من الخط التركي وبعض الفارسي ، فضلا عن تداخل الواردات ، من قرآن وحديث ، فلم تكن مرتبة ، ولا منسقة كما يظهر إليك هكذا ، وكذلك دقة الخط وغرابة طريقة كتابته ، ووجود بعض الألفاظ التركية والفارسية ، التي آثرنا عدم إيرادها ليبدو النص عربيّا ، فضلا عن عدم وضوحها في الأصل كثيرا.

٣

فقمت بالجمع والترتيب للمخطوط كما أمرني بذلك شيخي ـ قدس‌سره ـ وذلك قبل انتقاله بعام ونصف تقريبا ، حيث ترتيب الواردات والإشارات القرآنية على ترتيب المصحف ، وبعدها الأحاديث ، ثم الواردات.

فبالجملة تم إعادة صياغة وترتيب الكتاب وغير ذلك من أمور تسهم في إفادة النص ومضمونه ، وضبطه وتصحيحه قدر المستطاع.

وكذلك إضافة الفصل الأخير من مخطوط كتاب «تمام الفيض» للمصنف ، وهو في ذكر بعض الكلمات الواقعة بين المصنف وشيخه سيدي عثمان الفضلي ـ قدس‌سره ـ شيخ السادة الجلوتية ـ قدست أسرارهم ونفعنا من بركاتهم ـ وذلك لتعم الفائدة ، ويحصل النفع إن شاء الله تعالى.

ثم قمت بالتعليق على بعض إشارات المصنف على بعض الآيات المفسرة ، وكذلك على الأحاديث بعد تخريجها ، وكذا التعليق على بعض الواردات وشرحها.

توثيق الكتاب :

ـ أصل الكتاب مخطوطا بدار الكتب المصرية (متناثر الأوراق).

ـ ذكره البغدادي في هدية العارفين (١ / ١٨).

ـ الإشارات والتصريحات الكثيرة من المصنف بذكر اسمه وكتبه وشيخه وغير ذلك.

وآخرا نسأل الله حسن هدايته وتوفيقه ، وأن يرزقنا الصدق والإخلاص في عبوديته ، ومحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله وصحابته وأتباعه الصالحين .. آمين.

كتبه

أبو الحسن والحسين

أحمد فريد المزيدي الشافعي المصطفوي

جوال : ٠١٠١٤٦٣٠٢٧

٤

بسم الله الرّحمن الرحيم

ترجمة الشيخ المصنف

هو الشيخ العلامة الإمام الكبير إسماعيل حقي بن مصطفى الإسلامبولي الحنفي الجلوتي ، المولى أبو الفداء ، متصوف مفسر ، تركي مستعرب. ولد في آيدوس sodiA سنة ١٠٦٣ ه‍ ، وسكن القسطنطينية ، وانتقل إلى بروسة ، وكان من أتباع الطريقة (الجلوتية) فنفي إلى تكفور طاغ ، وأوذي وامتحن ، وعاد إلى بروسة ، فمات فيها سنة ١١٣٧ ه‍ ـ قدس الله سره العزيز.

من مصنفاته :

ـ روح البيان في تفسير القرآن (مطبوع عدة طبعات).

ـ تمام الفيض (مخطوط يسر الله لنا تحقيقه).

ـ الرسالة الخليلية في التصوف.

ـ تسهيل طريق الأصول لتيسير الوصول في التصوف.

ـ كتاب التوحيد.

ـ كتاب النجاة.

ـ شجرة اليقين في التصوف تركي.

ـ الفروقات.

ـ مرآة الحقائق (كتابنا هذا).

ـ روح الكلام في شرح صلوات المشيشي عبد السّلام.

ـ فرح الروح في شرح المحمدية ليازيجي زاده ثلاث مجلدات.

ـ شرح الآداب.

ـ نخبة اللطائف.

ـ نفائس المسائل.

ـ نقد الحال.

ـ نوادر الصوم.

٥

ـ واردات حقي من سنة ١١١٤ إلى آخر سنة ١١١٥ ه‍.

ـ شرح بند نامة للعطار.

ـ شرح شعب الإيمان للقيصري.

ـ شرح الكبائر.

ـ شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر.

ـ الأنوار في شرح منظومة كتاب التوحيد.

ـ الكنز المخفي.

ـ أسرار الحج.

ـ التحجي في حروف التهجي.

ـ تحفة إسماعيلية.

ـ تحفة خاصكية.

ـ تحفة خليلية.

ـ تحفة رجبية.

ـ تحفة عطائية.

ـ تسهيل طريق الأصول.

ـ جامع مهمات الطلاب.

ـ مزيل الأحزان.

ـ حاشية على تفسير سورة النبأ للبيضاوي مجلدين.

ـ الحجة البالغة.

ـ الحق الصريح والكشف الصحيح.

ـ ديون شعره تركي.

ـ الرسالة البرقية.

ـ الرسالة الجامعة.

ـ كتاب الخطاب.

ـ روح المثنوي.

ـ سلوك الملوك.

ـ مجموعة الأبرار.

ـ وسيلة المرام.

وانظر ترجمته :

هدية العارفين للبغدادي (١ / ١١٨) ، إيضاح المكنون (٢ / ٧٠٢).

٦

٧
٨

٩

١٠

بسم الله الرّحمن الرحيم

كتاب مرآة الحقائق في تأويل بعض الأحاديث والآيات مما أبدى الله القدير لقلب عبده الفقير (الشيخ) : إسماعيل حقي شرّفه بالتجلّي الحقي ، ومزيد الترقّي ، ووقع البدء في أواسط سنة ١١٢٥ ه‍.

سورة الفاتحة

قال الله تعالى في فاتحة الكتاب : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ١].

اعلم أن الحمد في مقام النعمة ؛ بمعنى : الشكر كما دلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«اللهم لك الحمد شكرا ، ولك المنّة فضلا» (١).

فإن قوله : (شكرا) ؛ كالتفسير للحمد ، وكذا قوله : (فضلا) ؛ كالتفسير للمنّة.

فإن المنّة قد تكون بمعنى الامتنان ، وقد تكون بمعنى الافضال كما في قولهم : المنّة لله ، فإنه بمعنى الحمد لله ؛ بل بمعنى الشكر لله ، فالفرق بين الحمد والشكر : إن الشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة كما سبق ، فيطلب زيادتها بالشكر ، ولا يكون في مقابلة المحنة ؛ لأن الشكر في معنى طلب المزيد.

كما قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧].

ولا معنى لطلب زيادة المحنة ؛ بل هو منهي عنه كما دلّ عليه قوله : «لا تتمنوا لقاء العدو» ، وقوله : «واسألوا الله العافية» (٢) ، بخلاف الحمد ، فإنه الله تعالى يحمد على السّراء والضرّاء ، فيؤل إلى معنى الصبر بمعنى : إن العبد ينبغي أن يصبر على المحنة ؛ فإنها من الله تعالى ، وفي ظهورها ظهور كمال الله تعالى.

والله تعالى يحمد على كماله سواء كان في صورة النعمة أو لا ، فإن كان الحامد من الأكامل ؛ فيجوز أن يكون حمده على المحنة شكرا ؛ لشهوده فيها النعمة ؛ بل يكون حمده إظهار الكمال لله تعالى من غير ملاحظة النعمة والمحنة ؛ لغيبته عن كل منهما ، واستغراقه في الله تعالى.

قال تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢].

__________________

(١) رواه الطبراني في الكبير (١٩ / ١٤٤) ، والبيهقي في الشعب (٤ / ٩٦).

(٢) ـ رواه البخاري (٣ / ١٠٨٢) ، وأحمد (٤ / ٣٥٣) ، والدارمي (٢ / ٢٨٥).

١١

لم يقل : الحمد لرب العالمين الله ؛ لكون الربوبية تلو الألوهية دون العكس ؛ فإن الألوهية كالسلطنة ، والربوبية كالوزارة ، فالسلطان مظهر الاسم الله ؛ لكمال جمعيته ، والوزير مظهر الاسم الرب ؛ لكونه في مقام التربية للعالمين ؛ كالروح والعقل ، فإن القوى والأعضاء إنما تقومان بهما ، وبهما كمال ترتبيهما ، فكما أن تعيّن الروح قبل تعيّن ما دونه ؛ فكذا تعيّن الألوهية ، ونظير ذلك الشمس مع القمر ، فإن الشمس أقدم في الوجود ؛ كتقدّم الأب على الابن (١).

والحاصل : إن الألوهية باطن الربوبية ، فالأولى مظهر الاسم الباطن ، والثانية مظهر الاسم الظاهر ، وكذا الحق باطن الخلق ، والشمس باطن القمر ، والأب باطن الابن ، والروح باطن الجسم ؛ فالظاهر مرآة الباطن في كل ذلك ؛ وإنما جعلوا الرب الاسم الأعظم أيضا ، وفي مرتبة الجلال من حيث جمعيته ؛ لأن الألوهية والربوبية لا تختصان بألوهية بعض دون بعض ، وبربوبية بعض دون بعض ، وباسم دون اسم ، وبلطف دون قهر وبالعكس ، فللسلطان الجمال والجلال ، وللوزير التربية بكل من اللطف والقهر ، فجمعية السلطان إنما تظهر في المراتب التي دون السلطنة فاعرف ذلك (٢).

__________________

(١) قال القطب القونوي : أظهر مراتب الحمد : «مرتبة الأفعال والأسماء» التي متعلقها «مرتبة الفعل» ، وهو في مرتبة الصفات وأسمائها يكون مدحا لا حمدا ، فإن بقيت الصفة فللوجه الجامع الرابط بين مرتبة الصفة والفعل.

والحمد المتعلق بالذات هو حمد الحمد وهو ثناء الصفة بنفسها لمن هي صفة ذاتية له غير مفارقة ولنفسها أيضا.

وأظهر مراتب الحمد مرتبة الأفعال والأسماء التي متعلّقها مرتبة الفعل ، وهو في مرتبة الصفات وأسمائها يكون مدحا لا حمدا ، فإن بقيت الصفة ؛ فللوجه الجامع الرابط بين مرتبة الصفة والفعل.

والحمد المتعلّق بالذات : هو حمد الحمد ، وهو ثناء الصفة بنفسها لمن هي صفة ذاتية له غير مفارقة ولنفسها أيضا. وانظر : النفحات (ص ٩٨) بتحقيقنا.

(٢) والحمد عند هذه الطائفة إظهار صفات الكمال ، ولا كمال إلا للحق تعالى سواء لوحظ بعين

١٢

__________________

ـ الجمع أو الفرق ، وكذلك مظهر لها الكمال جمعا وفرقا.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

وثنائه تعالى على نفسه هو إظهار كماله بتجليه وظهوره في المظاهر على هذا النمط الكامل والنظام المشاهد ، وهو مصدر بمعنى الفاعل أي : الحامدية ، أو بمعنى المفعول أي : المحمودية أي : الحاصل بالمصدر أي : الهيئة التي عليها الحامد أو المحمود عند تعلق الحمد به ، أو نفس المصدر أي : النسبة ، وعلى التقادير الثلاثة فاللام فيه إما الجنس أو الحقيقة أو الاستغراق.

فالأقسام تسعة حاصلة من ضرب الثلاثة في الثلاثة ، فإن كل من لام الجنس والحقيقة والاستغراق يحتمل فيه معاني الحمد الثلاثة ، والله علم الذات المجردة عن جميع النسب حتى عن التجريد ، أو غير ذلك من المعاني التي سبقت للفظ الجلالة وهذا المعنى أنسب بالمراد ، والمعنى الثاني أولى من المعنى الثالث ، والله أعلم وهو يقول الحق ويهدي السبيل.

فالمعنى جنس الحامدية ، أو المحمودية ، أو الحمد على تقدير أن يكون اللام للجنس ، أو الحقيقة المطلقة الشاملة لكلّ حامدية أو محمودية أو حمد المعبر عنها بلفظ الحمد على تقدير كونها للحقيقة ، أو كل فرد من أفراد الحامدية أو المحمودية أو الحمد من أي حامد صدر ، وعلى أي محمود وقع على تقدير كونها للاستغراق خالص ملكا واختصاصا واستحقا للذات البحت المعراة عن النّسب والاعتبارات ، وقيل : بعدم الفرق بين لام الجنس والحقيقة ، ومن لاحظ الحمد بعين الجمع واستهلاك المظاهر في الظاهر لا يقدر أن يحمّله على الاستغراق ؛ إذ لا تعدد في الجمع ، ومن لاحظه بعين التفرقة فيحمّله الاستغراق أيضا بتأويل أنه خالق جميع المحامد ومالكه ، وإلا فلا يقول : أن الحامد هو الله ، والمحمود أيضا هو الله في صورة (حمد زيد عمر) لا في مرتبة الإطلاق ولا في مرتبة التقييد ، بل في الصورة المذكورة.

يقول : إن الحامد (زيد) والمحمود (عمر) ، فلو قال : كلّ أفراد الحمد مثلا لله بلا تأويل يلزم أن يكون حمد زيد لعمرو حمد لله لا حمد زيد ، ويكون الحامد حقا هو تعالى لا زيد ، وأن يكون المحمود هو تعالى لا عمر ، وهو ينسب القائل بهذا إلى الكفر والزندقة ، فلا يمكن له الحمد المذكور إلا بالتأويل بأنه تعالى خالق لكلّ أفراد الحمد أو مالك أو صاحب ، ومن لاحظه بعين جمع الجمع ، وهو أن يرى الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة ، فلا تحجبه الكثرة عن الوحدة كأهل الفرق ، ولا الوحدة عن الكثرة كأهل الجمع ، فهو يحمل (ال) على الجنس ، والحقيقة والاستغراق بلا تأويل ، فعنده الحمد كله لله ، وليس كله لله بخلاف من كان في الجمع فإن الحمد كله لله لا غير ، ومن كان في الفرق فإنه يقول : بالبعض لله ، وبالبعض الآخر لما سواه إلا بالمذكور ، فحقا يكون

١٣

قال تعالى : (الرَّحْمنِ) [الفاتحة : ٣] في الظاهر ، فيعمّ رحمته الكافر ، والأعضاء والآفاق ، فإن كل ذلك داخل تحت حيطة الاسم الظاهر.

قال تعالى : (الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ٣] في الباطن ، فيعمّ رحمته المؤمن والقوى والأنفس ، كما يعمّهم الرحمة الرحمانية ، فللكافر ظاهر دون باطن ؛ لأن لا آخرة له ، فإن العاقبة للمتقين ، وللمؤمن ظاهر وباطن جميعا فالظاهر مع الباطن أقوى من الظاهر بلا باطن ؛ لأن الظاهر بلا باطن محصور كالدنيا ؛ لانتهائها دون الظاهر مع الباطن ؛ كالآخرة لعدم نهايتها.

وإنما أدخلنا الآخرة في الباطن ؛ لأنها قلب الدنيا ؛ والقلب باطن بالنسبة إلى القلب ، فكما ينتهي حكم الدنيا ، ويظهر الآخرة على صورتها ؛ فيكون الدنيا باطنة ، والآخرة ظاهر ؛ فكذا يظهر القلب في الآخرة على صورة القالب ، فيكون القالب باطنا ، والقلب ظاهرا ، وبه يصحّ رؤية الله تعالى كما يصحّ ذلك في الدنيا بالبصيرة ، فانظر إلى هذا ، وكن على بصيرة من الأمر ، فإن الأمر ليس كما يزعمه المنكرون من

__________________

ـ كمن في الجمع في إثبات جميع أفراد الحمد من حيث الخلق لله لا غير ، وكمن في جمع الجمع من حيث إثبات الحمد لغيره تعالى أيضا.

وفي الحقيقة لا كمال إلا كماله ، ولا مظهر له إلا هو جمعا أو فرقا ، فهو الحامد في كلّ مرتبة من مراتب الإطلاق والتقيّد ، وهو المحمود لكلّ فضيلة لا حامد سواه ولا يحمد أحد إلا إياه.

واعلم أن هذا الحمد على لسان الحقيقة إشارة إلى حمده الأزلي نفسه بنفسه ؛ لأن كل موجود ممكن إشارة إلى ما كان في الأزل في باطن علمه تعالى ، وهو شامل للشكر والمدح أيضا ، فهو الشاكر والمداح أيضا.

وقال صاحب «مرآة الأرواح» : حمد الله تعالى ذاته في الأزل بالوحدانية ، وصفاته بالكمالية وشكر الذات على نعمة الوجود ، والصفات على نعمة بذل الوجود بالجود ، ومدح الذات بنفي جميع الذوات في الوجود ، والصفات على بذل الأوصاف لكلّ ممكن وموجود ، وأفنى بها فيها أي : في صفاتها ، وهذا الحمد وإن كان مطلقا باعتبار إضافته إلى حضرة اسم هو أحدية جمع جميع الأسماء الإلهية وهو الله إلا أن حال الحامد يقيّده بحضرة خاصة من حضرات الأسماء الإلهية ؛ إذ الحمد لا يكون إلا من تلك الحضرة الخاصة.

١٤

المعتزلة وغيرهم ، والله رقيب شهيد.

ومن العجائب في هذا المقام أن الكافر باطن المؤمن ؛ لأن باطن المؤمن مظهر الجلال (١) ، كما أن ظاهره مظهر الجمال (٢) ، فللمؤمن رحمة لظاهره وباطنه في الدنيا والآخرة ، فالكافر لا يقنط من رحمة ربه إلا أن الرحمة له في صورة النعيم في الدنيا كما دلّ عليه قوله : «الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر» (٣).

وفي صورة الجحيم في الآخرة كما دلّ عليه قوله : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) [النبأ : ٢٣] : أي في العذاب في تلك المدة ؛ وهو مذهب أهل الحقائق ، وله في القرآن شواهد أخر لا تذكر هنا ، فظن خير ، ولا تسأل عن الخير ، والله قادر على أن ينبت جرجيرا في قعر النار ، وإن كان ذلك الجرجير ليس من جنس ما ينبت في قعر الجنة ؛ إذ ليس في النار نعيم ، فاعرف هذه الدقيقة ، وكن مع أهل الحقيقة.

__________________

(١) إن الجلال حضرة لائقة بالمشاهدة لأنه اسم ظهر الله به مخصوصا بالثنوية وهو تمكين اسم الجميل فتظهر عليه صفة في حال الناظر والمنظور ليحصل له هيبة وخشوع مع محبة فالجميل للمحبة ، فلما رفع المحب إلى مقام أعلى من موطن المحبة الذي هو الظاهر. فازداد الاسم صلة بغير زوال عينه ، ولما كانت هذه الصفة لائقة بالمشاهدة وهي الجلال خرج الشاهد في شهوده من مقام إلى مقام لأنه لا يتغير عليه صفة إلا بخروجه من محله في شهود واحد ، فالجلال مختصة بالله دون الجميل وغيره لكونها تنشأ عن التعظيم وكل تعظيم ناشئ عن عظمة الله تعالى ، وإذا حصل للشاهد شهودا في خلع واحد يكون هذا الشهود أشد تمكينا من الشهود الواحد ، والتمكين عبارة عن الاستعلاء لكن الاستعلاء على ضربين : استعلاء وصف واستعلاء معنى ، فالعارف الكامل له استعلاء الوصف ويتعالى عن استعلاء المعنى إذ استعلاء المعنى هو على بني الجنس بشرط الاستقلال لجهة دون جهة ، والعارف لا جنس له ولا حصر فيحل عن هذا المقام المعنوي ، ولما كان هذا العارف متصفا بالاستعلاء اتصافا فأخرج من مقام الشهود إلى مقام الجلال.

(٢) إن الجمال بعد الأرواح تنزل مناسب بحيث ذكر أرواحا متعددة والتعدد لائق بالجمال لأن الله تعالى لما أوجد الخلق متكثرا متمايزا أظهر بالجميل لئلا يقع النفور من البعض عن البعض ، وكذلك في عالم الأرواح ، فلما أدرك هذا الشاهد رضوان الله عليه أرواحا متعددة لحظ الجمال الناشئ بينهم لعدم النفور وهذه القابلية في هذا المحل قد كانت شديدة الصقال ، والناظر فيها نافذ النظر حتى شهده صورة الموصوف والأوصاف ، لأن الجمال صفة خافية وهمية فلا يدركها إلا من اتصف في حال شهوده بهذه الأوصاف.

(٣) رواه مسلم (٤ / ٢٢٧٢).

١٥

فإن مذهبهم ليس بمخالف لمذهب أهل الشريعة ، وإن كان أهل الرسوم يسيئون الظن بهم ؛ لعدم وقوفهم على الحقائق ، ولنا في هذا المقام كلام عريض لا يقتضي المقام استيفاؤه ، واعتقادنا على أن أهل النار مخلّدون فيها ، وليس لهم نعيم كنعيم أهل الجنة من أكل ، وشرب ، ولباس ونكاح ، ونحو ذلك ، فهم كما قال الله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء : ٥٦] الآية.

قال تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤].

دلّ نداء على أن اليوم في الأصل كان يوما بلا ليل ، ثم ظهر الليل بحسب الأجرام النيّرة وغروبها ، وكذا هو يوم واحد في الفرع بلا ليل ؛ لأن الآخرة لا ليل لها.

وفيه إشارة إلى أن الدنيا والآخرة ملك لله تعالى ليس لغيره في ذلك الملك يد إلا بطريق الخلافة والعارية ، فإن الدين المجازاة ، وهو جارية في الدّارين ، فهو تعالى مالك يوم الدنيا ، ويوم الآخرة ، ومالك المجازاة فيهما ، فظهر إن قيامة العارفين دائمة ؛ لكونهم مع الله تعالى في كل نفس من الأنفاس ، ومحاسبون أنفسهم في كل لحظة من لحظات ، فهم مملوكون لله تعالى ؛ لأنهم أحرار عمّا سواه تعالى ، وقائمون لربهم بالخدمة في كل حين.

قال عزوجل : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].

أراد بالعبادة المبنية على التوحيد ، فإن العبادة بلا توحيد عبادة المشركين ، فلا تعود إلى الله ، وإنما تعود إلى الآلهة الذين اتّخذوها معبودين من دون الله ، دلّ على هذا تقديم المعمول الدال على القصر ، فإذا كانت العبادة مخصوصة به تعالى ؛ كانت الاستعانة أيضا كذلك ، إذ لا يستعين المرء إلا بمعبوده].

قال تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] : أي ثبّتنا على صراط تخصيص العبادة والاستعانة بك.

قال تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] في الأزل ، فكانوا على شكر النعمة في جانب الأبد.

قال تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧] ؛ هم الذين

١٦

استعانوا بغير الله ، ولمّا كان أثر الغضب أشدّ من أثر الضلال ؛ قدّمه عليه.

وفيه إشارة إلى أن غاية الأمر بالنسبة إلى المستعين بغير الله هو الحيرة ؛ إذ لا يتم ولو قاسى كل الشدائد ، وإنما يتم منه إذا لم يكن ذلك الغير غير الحسب لشهوده الحق في كل مظهر من المظاهر.

وإليه الإشارة بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر : ١٥](١).

__________________

(١) فائدة : قال سيدي أبو المواهب الشاذلي قدس الله سره في قوانين الحكم : قال الله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ) [فاطر : ١٥].

تحقيق : حقيقة الفقر في ظاهر الطريقة غير ما هو باطن الحقيقة ، فالظاهر فقر الزهاد من الأعراض الدنيوية ، والباطن فقر الأفراد من الأغراض الأخروية شغلا بالله عما سواه لمن شهد ذلك ورآه.

تدقيق : تفاخر الغني مع الفقير.

فقال الغني : أنا وصف الرب الكبير ، فما أنت أيها الحقير.

فقال الفقير : لو لا وصفي لما تميّز وصفك ، ولو لا تواضعي ما رفع قدرك ، فأنا وصفي وسم بذلّ العبودية ، وأنت وصفك نازع الربوبية ، ومن نازع قصم ، ومن سلّم سلم.

تحقيق : التبس حال الفقير على غير النبيه ، فقال : الفقير غير الفقيه ، وما علم أن الراء هي الهاء.

إنّ الفقير هو الفقيه وإنما

راء الفقير تجمعت أطرافها

تدقيق : الفقير الفقيه من حطّ حمل الرحال على أعتاب الرجال ، حتى أرضعته طريّ لبن الصدور ، وأغنته عن قديد ميت السطور.

فانتصح يا فقيه القال ، واسمع يا فقير الحال ، وافن بالله عن الرسوم ، واخرج عن كل معلوم.

يا فقيه الجدال ، هذا الجدّ آل أدخل حان أخيارنا ، نصيّرك من أحبارنا ، ونسقيك صافي الشراب بعد نقيع السراب.

يا فقيه النقل ، يا عقول العقل ، ستر عنك نور الكشف حجاب أنيّتك العقلية ، والذوق غيّر طعمه عندك مرارة العلوم النقليه.

يا فقيه الاسم دون المسمّى الغلط أوجبه تشابه الأسماء لو عرفت معنى الفقير والفقيه كنت الحاذق النبيه.

الفقيه من فقه عن الله ، وفنى به عمن سواه ، فلو كنت بهذا الوصف كنت الفقير صدقا ، والفقيه عند الله حقّا.

تحقيق : فضّل قوم الغني على الفقر ، وعكس آخرون الأمر ، والحق أن غنى النفس بالأعراض البشرية لا يخرجها عن افتقار صفاتها الذاتية.

تدقيق : من ادّعى الغنى وقع في العنا ، بخلاف من أظهر الفقر ؛ فإنه خلص من الأمر.

١٧

أي : سواء كان إحياء حكم إلى السلطان مثلا في الظاهر ، أو إلى من دونه ،

__________________

ـ تحقيق : الفقير من اتّصف بحقيقة الافتقار عن إرادة منه واختيار ، لا عن ضرورة ردته لمركز الاضطرار.

تدقيق : من استكبر بوصف الغني على الفقير استوجب حكم العكس من القدير.

ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى

وأن الغنى يخشى عليه من الفقر

تحقيق : سمة الفقر سمة الأحباب ، وحليته حلية العبد الأواب ، من لبس اسما له كان ذلك وسما له في وجود أهل القبول ، ولهم من الله نيل المسئول.

وجوه عليها للقبول علامة

ولبس على كل الوجوه قبول

تدقيق : من افتخر على الفقراء بماله ، أو تباهى عليهم بجماله ؛ افتقر وعاد وقد انكسر.

لا تفخرن بما أوتيت من نعم

على سواك وخف من كسر جبار

فأنت في الأرض بالفخار مشتبه

ما أسرع الكسر في الدنيا لفخار

تحقيق : جواهر معاني الزمان أنفس من أن تضيعها في الهذيان ، فيا لله العجب ممن عمره انقضى وذهب في جمع الفضة والذهب ، وهو بما جمع فقير ليس له نصير.

ومن ينفق الساعات في جمع ماله

مخافة فقر فالذي فعل الفقر

تدقيق : من أفقر إلى الله استغنى به عن كل شيء ، ومن استغنى عنه افتقر إلى كل شيء ، ومن افتقر إلى كل شيء ، فقد أوحشه كل شيء ، ولم يتعوض عن الله بشيء من كل شيء.

لكل شيء إذا فارقته عوض

وليس لله إن فارقت من عوض

تحقيق : خاصية مغناطيس فقر الذات هي الجاذبة للعطايا والهبات ، فمن كان وصف افتقاره أكثر كان نصيبه أجزل وأكبر.

تدقيق : اختصاص الفقراء بالسؤال خصوصية لهم في الحال والمآل ، يعرفها من وجد ثمر المطالب ، وقضيت له الحاجات والمآرب.

تحقيق : اتّصاف الرب سبحانه بوجود الغنى المطلق ، هو الذي أوجب لنا الفقر المحقق ، وبهذا الاتصاف حصلت الألطاف ؛ لأن من رحمة الغني أن يجود على الفقير ، ويجبر المسكين الكسير.

تدقيق : ما أتى باب الغني الكريم فقير فخاب ، ولا قصد حماه فغلق دونه الأبواب.

على بابك الأعلى مددت يد الرّجا

ومن جاء هذا الباب لا يختشى الرّدى

١٨

وهذا الضلال الذي هو الحيرة بالاستعانة بغير الله ؛ هو الضلال البعيد ، والحيرة المذمومة.

وأمّا الضلال الذي هو التلوّن بتجليّات الله تعالى ، والتقلّب في شهوده وشئونه ؛ فذلك حيرة ممدوحة كما عليه الكمّل نسأل الله الثبات في مقام الإيمان ، والحيرة في مقام الإحسان (١) ، اللهم تفضّل علينا به في كل حين لين.

__________________

(١) قال الشيخ الشعراني : الحيرة في الله من كمال المعرفة به ، وهي سارية في العالم النّوريّ والنّاريّ والترابيّ ؛ لأن العالم ما ظهر إلا على ما هو عليه من العلم الإلهيّ ، وما هو في العلم الإلهيّ لا يتبدّل ، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم : ٣٠].

فما فطر العالم إلا على الحيرة ، وذلك لأن المرتبة الإلهية تنفي بذاتها التقييد عنها ، والقوابل تنفي الإطلاق عنها ، ولا تشهد إلا صورتها من التقييد.

فهذا هو سبب شدة الحيرة في الوجود ، ولا أحد أشدّ حيرة في الله من العلماء به ، ولهذا ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «زدني اللهمّ فيك تحيّرا» ، ومع ذلك فأعلى ما يصل إليه العلماء بالله تعالى من طريق نظرهم مبتدأ البهائم ؛ لأنها كغيرها مفطورة على الحيرة في الله عزوجل ، والإنسان يريد أن يخرج بما أعطاه الله تعالى من العقل والرؤية وإمعان النظر عن الحيرة التي فطر عليها ، فلا يصحّ له ذلك.

وعلى هذا الذي قررناه الإشارة بقوله تعالى في حقّ قوم : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)[الفرقان : ٤٤].

فإن التشبيه بالأنعام إنما هو في الحيرة لا في المحار فيه ، فليس ذلك نقصا في الأنعام ، والحيرة عمى بلا شكّ (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)[الإسراء : ٧٢] ، أعني جاهلا بالذات ، لا كما هو في الدنيا.

ولذلك كان العارف المحقق عمرو بن عثمان المكي يقول في صفة العارفين : وكما هم اليوم يكونون غدا ، فعلم أن من طلب معرفة الذات من طريق الفكر والنظر كان مآله إلى الحيرة ، كما أن من طلب الواحد في عينه لم يحصل إلا على الحيرة ، فإنه لا يقدر على الانفكاك من الجمع والكثرة في الطالب والمطلوب ، وكيف يقدر على ذلك ، وهو يحكم على نفسه بأنه طالب ، وعلى نفسه بأنه مطلوب ، ومقام الواحد يتعالى أن يحلّ في شيء ، أو يحلّ فيه شيء ؛ لأن الحقائق لا تتغير عن ذاتها ؛ إذ لو تغيرت لتغير الواحد في نفسه ، وتغيير الحق في نفسه وتغيير الحقائق محال.

١٩

__________________

ـ واعلم أن حيرة أهل الكشف والشهود أعظم من حيرة أصحاب النظر في الأدلة ؛ لاختلاف الصورة عليهم عند الشهود.

فإن أصحاب النظر والفكر ما برحوا بأفكارهم في الأكوان ، فلهم أن يحاروا ويعجزوا ، وهؤلاء ارتفعوا عن الأكوان ، وما بقي لهم شهود إلا فيه ، فهو مشهودهم ، فكانت حيرتهم باختلاف التجليات أشد من حيرة النظّار في معارضات الدلالات ، وفي الحقيقة ما في الوجود إلا الله.

ولا يعرف الله إلا الله ، فمن وصل إلى الحيرة من المقربين فقد وصل ، والسّلام.

وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول : العلماء بالله على أربعة أصناف :

صنف : ما لهم علم بالله إلا من طريق النظر الفكري ، وهم القائلون بالسلوب.

وصنف : ما لهم علم بالله إلا من طريق التجلي ، وهم القائلون بالثبوت والحدود التابعة للصورة.

وصنف : يحدث لهم علم بالله بين الشهود والنظر ، فلا يبقون مع الصورة في التجلي ، ولا يصلون إلى معرفة هذه الذات الظاهرة بهذه الصورة في أعين الناظرين.

وصنف : ليس واحد من هؤلاء الثلاثة ، ولا يخرج عن جميعهم ، وهو الذي يعلم أن الله تعالى قابل لكل معتقد في العالم ، من حيث إنه عين الوجود ، وهذا القسم ينقسم إلى صنفين :

صنف يقول : عين الحق هو المتجلي في صور الممكنات.

وصنف يقول : أحكام الممكنات ، وهم الصور الظاهرة في عين الوجود الحق ، وكلّ قال ما هو الأمر عليه ، ومن هنا فشت الحيرة في المتحيّرين ، وهي عين الهدي في كل حائر ، فمن وقف مع الحيرة حار ، ومن وقف مع كون الحيرة هدى وصل ، ومن وصل لا يرجع ، لأن من المحال الرجوع بعد كشف الحجاب إلى الحجاب ؛ إذ المعلوم لا يجهله العالم بعد تعلق العلم به.

ومرادنا بالوصول الوصول إلى السعادة الدائمة.

وهو معنى قوله : «فإذا أحببته كنت سمعه وبصره» الحديث.

فعلم أن من أعظم غلطات أهل النظر طلبهم الخروج عن الحيرة بالخلوة والرياضة ، وذلك لا يكون لهم أبدا ، لأن التجرد عن المواد يعقل ولا يشهد ، ولا يسلم لهم عقل من حكم ولا خيال ؛ لأن كل ما سوى الله حقيقته الإمكان ، والشيء لا يزول عن حكم نفسه ، ولا يتعقل إلا ما كان على صورته ، تعالى الله عن ذلك.

وكان شيخنا رضي الله عنه يقول :

من الرجال من زالت عنه الحيرة في الله عزوجل. فقلت له : كيف ذاك؟ فقال : إذا تجلى الله تعالى للقلب في غير عالم المواد زالت الحيرة ، وعلم من الله على قدر ذلك التجلي من غير تعيين ؛ إذ لا يقدر

٢٠