مرآة الحقائق - ج ٢

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ٢

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

كذلك لا يدفع القضاء المبرم ألا ترى أن حبيب الله لم يكن له عديل في مرتبة الحقيقة مع أن ذلك لم يدفع عنه إشقاق العقب ، وكسر السن في غزوة أحد.

قال : (ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩] ، وإنما أعرف الآن ، قال : ورد إذا جاء القضاء عمي البصر ، فإذا جاء القضاء يفعل الله بعبده فلا ينفعه نبوته ولا ولايته إذ كل مقضي لا بد أن يكون ، ثم أنشد قول الهدائي في بعض إلهياتة التركية [...](١).

قال : إن أهل البصيرة والشهود يرتعدون عند ميدان القضاء كالأوراق وقت الخريف لمّا يعلمون كمال بطشه وقوته ، وأما أهل الغفلة فلا قدرة لهم على مشاهدة الجلال في صورة الجمال اليوم وهو اليوم الثاني من رجب سنة إحدى ومائة وألف.

دعا حضرة الشيخ كاتبا من طرف نائب محكمة أخي جلبى الواقع في القسطنطينية ليكتب حجة متعلقة بابنته الصغيرة السيدة خيفة ، وذلك أن حضرة الشيخ كان زوجها الحاج صالح من أتباعه ، ثم صدر منه قبل الدخول خيانة عظيمة فأراد الشيخ تطليقه لابنته فاختفى ولم يفعل ، فشهد خليفة الشيخ عبد الله الساكن في القسطنطينة وهو أعلم خلفائه وأزهدهم ، وكذا الابن الكبير لحضرة الشيخ أن الحاج صالح كان قد صدر عنه ما يوجب تجديد النكاح قبل أيام ، فراجعنا في تجديد النكاح ، فلم يتفق لنا ذلك بحسب الموانع ، فبقي الأمر على حاله إلى الآن ، فلا ضرر في اختفائه ، فإن زوجته كانت مطلقة قبل مجيء الكاتب ، فادعى حضرة الشيخ ذلك ، وشهد شاهدان بذلك فكتب حجة بالأخبار ؛ فقلت للشيخ عبد الله : ما فائدة هذه الحجة الإخبارية؟ قال : فيها ثلاث فوائد :

الأولى : أن فيها حفظا للمقال أي مقال الحاج صالح بأنه قد صدر مني ما يوجب تجديد النكاح.

والثانية : أنها حل لها التزوج إلى آخر.

والثالثة : أن فيها إلقاء الرعب في قلب الخصم.

قلت : أهم حضرة الشيخ في باب البيت المذكور حتى أرسل مكتوبا من جزيرة قبرص حين نفى إليها في آخر عمره ، وفيه عدم رضائه بإنكاحها إلى الحاج المذكور بحيث إنه فعل ذلك حضرة الشيخ في حبيبه يوم القيامة.

__________________

(١) كلام تركي.

٤٠١

قال حضرة الشيخ : هل لك مرض جسماني؟ قلت : نعم ، قال : إن الصحة الكاملة تسقط المرء إلى المرتبة الطبيعية والنفس ، وأنا مبتلي من قديم بريح البواسير ، قال : العبد عبد ليس فيه شوب من الربوبية ، والرب رب ليس فيه شوب من العبودية ؛ فالكامل الأكمل الذي فرق بينهما فرقانا ما ولم يخلط بين المراتب ، ولذا كان الأكمل أعجز العاجزين صورة فكما كان بصيرته وروحانيته في غاية العلو هكذا كانت جسمانيته في غاية السفل ، فهو لا يدري أوضع من نفسه وعجز في الخلائق ؛ فالفيض الكامل يعطي التعبير بالشريعة والأدب بحيث يجد صاحبه لذة كاملة في العبادة لا يشبهها شيء من اللذات ، ثم مثّل الفيض ؛ فقال : كما أن صاحب الزراعة ينبغي له التقيد بكراب الأرض ، وهو لا يدري حتى ينزل المطر فكذلك صاحب المجاهدة ينبغي له التقيد بالأعمال والأخلاق ، وهو لا يدري حتى ينزل الفيض ؛ فإذا نزل يصيب محزّة ، فمن تجل في آن غير منقسم لكنه يعطى علوما غير متناهية ، ومن تجل في يوم وأسبوع وفي شهر وفي أزيد يعني يمتد ، وكل ذلك ليس في يد العبد ، فكما أن في المطر الصوري رعدا وبرقا ، فكذا في الفيض المعنوي ما يشبهها ، والتجلي على أنواع ؛ فتارة ينكشف أسرار النسخة الإلهية ، وتارة أسرار النسخة اللفظية المكتوبة المنقولة عنها بالقرآن اللفظي ، فهذه أربعة مصاحف غايتها الرابعة ، فلذا ترى الكمّل لا يشتغلون في أواخر أعمارهم إلا بالقرآن ، وليس شيء يصلح أن يكون مورد فيضهم وعلومهم سوى القرآن.

ثم قال : وقد أعطاني الله في هذا الكتاب إيمانا كاملا بحيث لو اتفق الملأ الأعلى والأسفل على خلافه ما زاغ قلبي ما دام التثبيت من الله ، ثم تلا قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) [آل عمران : ٨].

قال : إن شيخي كان رجلا ساكنا متأدبا لا يغره بما يغر به أرباب الدعوى في هذا الزمان ، وهو المقبول عندي أيضا.

قال حضرة الشيخ : إن بعض الناس يطلب مني خارق العادة ، وليس عندي غير الكرامات العلمية الباطنية وبعض من الخواص يعطي له الطرفان لكن المقبول هو ما يتعلق بالباطن والإله ، لا بالظاهر والكون ، فمن أراد أن يكون مريدا إلي فليقبلني بهذه المرتبة ، ومن أراد الخوارق والكشوف فليطلب من غيري ، فإني لست بشيخ ، ثم تلا قوله تعالى : (ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩].

٤٠٢

قال : ما أدري ما يتعلق بالكون إلا أن يشاء الله ، وأنا في ذلك كسائر الناس.

قال حضرة الشيخ : المريد والمرشد لا يتفقان في المشرب غالبا ، وإن كان بينهما نوع مشابهة كما أن الابن لا يكون عين الأب من جهة الصورة ، وإن كان بينهما نوع مماثلة فكل شخص لا يعطى إلا بقدر حاله واستعداده الأزلي والمرشد واسطة في البين وله التربية والعقول.

قال حضرة الشيخ : فرق بين الحضور والاستحضار ، فالحضور لأهل النهاية والاستحضار لأهل البداية ؛ فإنه لا نسيان للفرقة الأولى أصلا فلهم الجمعية الكبرى ، وأما الثانية فإذا طرأ عليهم النسيان يستحضرون ، وعلامة الحضور مطلقا الانجذاب من طرف الخلق والكون إلى طرف الحق والإله ومصداقه بالعبودية الكاملة فمن لا تعبد له فهو نسيان كامل لا حضور معه أصلا فله سوء الخاتمة وهو فكر الغير ، وخروج الروح معه ، ومن له تعبد ناقص فهو في حضور ناقص وأهله على خطر أيضا ، ومن له تعبد كامل بلا تكلف فله حضور تام ، وكيف لا يكون له الحضور الباطني يعطى ذلك التعبد بالأعمال والأخلاق في الظاهر ثم وصى بالعبودية إلى أن يخرج الروح من الحلقوم.

وأمرني حضرة الشيخ بالإمامة في صلاة الرغائب ليلة الجمعة الأولى من رجب لسنة إحدى ومائة وألف ، فلما صلينا المغرب ، قال مخاطبا للحضّار من الخلفاء أو غيرهم : ما تقولون في حق القرآن؟ فقلت : تخفيفا لبعض الضعفاء ، فقرأ في الأولى الفاتحة وسورة القدر ، والثانية بسورة الإخلاص مرة ، وهكذا إلى أن تم اثنتا عشرة ركعة.

وقال بعض الخلفاء مخاطبا لحضرة الشيخ : رأيته يعلمكم سورة القدر ثلاث مرات ، وسورة الإخلاص اثنتي عشرة مرة ، وذلك في كل ركعة منها.

فقال حضرة الشيخ : هذا على وجوه لكن المختار الأولى والأقوى الذي هو العزيمة والتقوى فأمر بما كتبه ؛ فقال بعضهم : هل يلزم المنذر؟ قال : لا ، بل هو لإسكات العوام لكن لا بأس بالنذر فصلوا بأي وجه شئتم ، فصليت على هذا الوجه إماما لمن تبعني ممن حضر في دار حضرة الشيخ من الخلفاء وغيرهم ، فلما تمّ الصلاة والدعاء ، قال حضرة الشيخ : تقبل الله ووصّى أيضا لوكيله في جامعه قبل أن يصلي هذا الصلاة هناك.

٤٠٣

ثم قال حضرة الشيخ : صلّ بنا بعد العشاء صلاة التسبيح.

فقلت : نعم ، فصلينا بالحمد لله ، والرجاء الواثق على أن هذه الليلة كانت ليلة المغفرة والرحمة لأنا قد وجدنا ببركة حضور الشيخ خفة في الأبدان ، وتوجها في الأرواح ، ورقة في القلوب ، وطمعا في عفو الذنوب ، واعلم أن صلاة الرغائب والبراءة والقدر صلاها العلماء الكرام والمشايخ العظام إلى هذا الآن ، وحكم الإمام الغزالي باستحبابها ، وأمر السلاطين في منشور أوقافهم أن يصليها أئمة جوامعهم بعد الإجماع من علماء زمانهم ، والأمة لا تجتمع على الضلالة ، و «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن (١)» ، فلا يضر بك الألفاظ المموهة لأهل الإنكار ؛ فإنهم يزيدون في طنبورهم في كل عصر نغمة وصوت الطبل ، وإن كان يبلغ بعيد الكنه مجوف خال.

قال حضرة الشيخ : أصل السماع حق ، ولكن هذا الوقت ليس وقت السماع. قال : هلا نكتب شرحا على الطريقة المحمدية لمحمد البركوي ، ثم قال : لا حاجة في هذا الزمان ، فسكت من كان عنده ، وقال : الحق ظاهر لأهله ، قال : أهل الحق لا يرى الباطل ، والدنيا عند أهل الحقيقة تبقى في مقام الاعتبار لا مقام الحقيقة.

أرسل حضرة الشيخ دراهم إلى الفقير في محلته ، فقال : إن هذا وقع في قلبي هذه الليلة ، فهذا الرزق لها من الوجه الذي لا يحتسب ، فهو حلال طيب.

ورأيت هذا الصباح يوم الإثنين كأني صليت الترويح في جامع كبير على رأس جسر عظيم ، فخرج حضرة الشيخ من الجامع فتبعته ، فلما أخذنا نجرّ إلى الجسر التفت إليّ ، وقال : أنا أريد منك أن يكون خدمتك لي كخدمة الأولياء للأنبياء فتفكرت أن الخدمة أشق فوجدتها متابعة الشيخ ، وذلك ؛ لأنه كان من دأب الشيخ أن يصلي التهجد فيه ثم يخرج عابرا الجسر إلى البلدة العظيمة التي كانت مقره ، وهي في الرأس الأخير من الجسر ، فعزمت على أن أتابع حضرة الشيخ في الصلاة والقيام ثم الخروج معه إلى تلك البلدة من ذلك من الجسر ، فلما قرب انتهاء الجسر ورؤى البلدة التي وراءه استيقظت ، والحمد لله على ما في هذه الرؤيا من بشارة المتابعة التي هي دين الأنبياء والأولياء أجمعين.

قال حضرة الشيخ : من عرف نفسه فقد عرف ربه : صعود.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٤٠٤

وقولنا في العكس : من عرف ربه فقد عرف نفسه : نزول.

فالأول إشارة إلى حال الفناء ، والثاني إلى حال البقاء.

قال حضرة الشيخ : للمريد أن يتزوج بنت شيخه شريعة وطريقة ، وأما نكاح زوجته مطلقة أو متوفّى عنها زوجها ؛ فهو وإن كان له مساغ شرعي لكن ليس له مساغ طريقي ، ولا يجد الناكح ميمنة في ذلك النكاح أصلا في الدنيا والآخرة ومثله الأستاذ في الصناعة ؛ فإن الأستاذ والشيخ هو الأب المعنوي ، وقد قال تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

قال حضرة الشيخ الأكبر ـ قدس‌سره ـ في أواخر «مواقع النجوم» : احترام الشيوخ واجب ، ومن احترامهم ألا يلبس ثيابهم ، ولا يقعد في مكانهم ، ولا ينكح المريد امرأة شيخه إن طلقها أو مات عنها ، ولا يرد في وجوههم كلاما ، ويبادر لامتثال ما يقولون ، ومن احترامهم تعظيم من عظموه ، فعظم من عظم شيخك ، وتلمذ له إن قدم عليك ، وإن كنت أعلم منه ؛ فإن الشيخ أعرف بالمصلحة لك منك ، ولا يحجبك ما ترى من بعضهم عن تقديم الشيخ له عليك وتهذيبه انتهى.

قال حضرة الشيخ : يا إسماعيل ، إنك ذبيح ، ولا بد في الذبيح من التسليم ، وليس لنا حقيقة التسليم لكنا نجتهد إلى الموت ، ومن مات في الطريق ؛ فقد وصل.

قال حضرة الشيخ : في هذا الباب شيخ وخادم ؛ أما الشيخ فحقه التربية ، وأما الخادم فشأنه الخدمة بالصدق والخلوص ، ثم قال : إن شيخي أراد مرة أن يرسل واحدا من المريدين إلى الكرم فاختفى كل واحد منهم كراهة للخدمة ، فخرجت من الحجرة ؛ فقلت : أرسلوني ، فقال شيخي : يا سيدي ، إن لك درسا فيضيع وقتك ، فقلت : لو علمت أن جميع العلوم تنكشف لي اليوم ما اخترت إلا الخدمة ، فاستبشر ودعا لي واستخدمني ، فكان ما كان بمقابلة هذا الخلوص والصدق.

قال : والرضا لا يدركه إلا من حصل له ثمرته ، ثم قال : إن محمد دده كان رجلا معتمدا عليه في أوائل حاله فاستصحبه الشيخ حين خرج إلى الغزو ، فلما وصل إلى بلدة صوفية وقع محمد دده في الطمع ، فأخذ ليلة سرق دراهم من كيس حضرة الشيخ.

قال حضرة الشيخ : فاطلعت عليه وهو قد ظنّ أني نائم فأمسك بيده ، فخجل ، ثم انقطع عن الشيخ ، وتغير حاله ، وذلك أن بعض الأمراء كان قد أسرت له

٤٠٥

بنت ، فوعد لمحمد دده حين كان في خدمة الشيخ أن يزوجه بنته أن خلصها الله من الأسر فخلصها الله تعالى وأنجز الأمير وعده لكن ماتت البنت قبل الدخول ؛ فلحق محمد دده ببعض القرى ، وتغير دينه وديناه نعوذ بالله ، وقد سبق نظيره.

قال حضرة الشيخ : رأيت في بعض الكتب أن حضرة شيث ـ عليه‌السلام ـ مرض مرة ، فأرسل إليه حورية بطبق من مأكولات الجنة ، وزوجها إياه ؛ فولد ، فكان أصل العرب جميعهم.

فقلت : هل يقع الازدواج بين أهل الدنيا وأهل الجنة في هذه النشأة كما يقع بين الإنس والجن؟ قال : نعم.

أقول : الملائكة والحور والجن أرواح لطيفة بينها وبين الكثيفة نوع تباعد ؛ فالازدواج بين الإنس والجن والحور يحتمل أن يكون بعد التلبس بملابس هذه النشأة كما أن حكومة الملكين هاروت وماروت كذلك.

وأما آدم عليه‌السلام كان يأتي حواء في الجنة ، وأن قابيل كان من أولاد الجنة ؛ فليس بصحيح عندي إلا أن يحمل الجنة ، على الجنة الأرضية كما عليه أهل التحقيق إذ الأولاد إنما كانوا بعد الهبوط والعلوق للتعارف الذي لا يحتمل النشأة الجنانية ، ويدل عليه أن حواء كانت لا تعرف ما المنكر قبل الهبوط كما في روضة الخطبية.

كلف حضرة الشيخ خليفته الشيخ حسين الأزميدي أن يقرأ في محضر شريف ابنه الكبير السيد محمد الجودي الفارسي فتوقف ولم يجسر عليه ، وزعم أن النسخة مختبطة ، فجرى ما جرى من الكلمات بيننا حتى قال الشيخ متبسما : إنكم أشغلتمونا ، وكان السيد المذكور يقرأ : «يندعطار» فبدلوا بالنسخة السقيمة المستقيمة ، أو «يندعطار بوستان ، أو كلدستان» أو غيرهما ؛ فقال بعضهم : إن في «يندعطار» يمنا وبركة ؛ فإن التواتر على أن حضرة الشيخ ابن العطار ـ قدس‌سره ـ دعا لمن ابتدأ الفارسية بكتابة ذلك : أن يكون عارفا في ذلك اللسان.

فقال حضرة الشيخ : بخ ، بخ ؛ فقام إلى الحرم.

فقال حضرة الشيخ : بعض الناس وقع لي الهيبة فاستولى عليه الخوف ، وبعضهم في الأنفس فاستولى عليه الرجاء والاعتدال إلى أن يكون المرء بين الخوف والرجاء لكن الله تعالى يفعل ما يشاء ، استأذن بعض الفقراء في الذهاب إلى مكة المكرمة فدعا له بالرشد ، وقال له : قل حين خروجك :

٤٠٦

(رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) [الإسراء : ٨٠].

وحين النزول : (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [المؤمنون : ٢٩] ، وهكذا في كل مرحلة ، ثم قال ممثلا : إن أهل التجريد الصوري كالذباب يليق بفمه من غير تلطيخ رجليه فتسليم فإذا لطخ رجليه منع الطيران ؛ فأهل التجرد يطير إلى حيث شاء كالذباب ، قال : قيل للحطاط أرجل؟ فوضع أبرمة على رأسه فرجل ، ولو حيل بلا جواب الذي علق بلباس بدنه اخلع لباسك ، هان عليه ذلك ؛ فإنه تعلق به كالغير.

قال : التجرد الصوري مدار للتجرد المعنوي ، وأما قوله : لا يضر التعلق الصوري إذا وجد تعلق المعنوي فسقط من وجه.

ثم قال : أنت من أهل الهداية حيث كنت وراء البحر ، ونحن من أهل الخبرة حيث كنا هاهنا ، والخوف غالب علينا ؛ لأن هذه البلدة محل الخطر الآن.

أقول : هذا الكلام صدر منه بحسب المقام فليس له خوف عمّا سوى الله.

قال حضرة الشيخ بعد صلاة العصر مخاطبا لابنه الكبير السيد محمد الجودي : إن الأب أصل ، والابن فرع ، والأب فرد ، والابن جمع ، والأب مظهر يد الله ، والأبناء مظاهر الأبد والأيدي ، وإن كانت في غاية القوة بحسب التظاهر والتجمع لكنها إنما يستفيض القوة كأغصان الشجرة من الأصل كما قال الله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] ؛ فخافوا من الأب ، فإن الحل والعقد والرد والقبول في يده بالنسبة إلى الأبناء لا في أيديهم أقول هذه الكلمات ، وإن جرت بحسب الملاطفة لكنها في نهاية المعنى.

قال حضرة الشيخ : إن الدنيا دار ناز يعني : من طرف الله ، ودار نياز يعني من جانبك والجنة دار ناز ، فلك ناز ، ومن الله نياز يعني : الإنعام والإحسان ، والمتوجه إلى جنابك هكذا قال : ناز باللسان الفارسية.

قال حضرة الشيخ : رأيت في بعض الكتب المعتبرة أن الغزو فرض والحج فرض إذا اجتمعا يرجح الأول ، ثم تلا قوله سبحانه وتعالى :

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦].

قال حضرة الشيخ : ذلة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وافتقارهم أشد من غيرهم ،

٤٠٧

فهم الكمّل الظاهر في الباب والأعز منهم وأقدرهم أشد خوفا من الله من غيرهم ثم تلا قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : ٤٤] ؛ فقال : إنما ينهى عن الخشية من الناس ؛ لأنهم صور وأشكال ولا ينبغي الخوف من الصور ، وأما الله سبحانه فهو المحرك بتلك الصور فينبغي الخشية منه ؛ فإنه إذا أراد أن يوصل البلاء من وجه ذرة وبعوضة ، وهو على ما يشاء قدير.

قال حضرة الشيخ : دعاء العبد إنما هو لإظهار العبودية والذل والافتقار والامتثال لأمر الملك الغفار لا لحكم على أحكام الله ومداخلة أمر من أموره ؛ فإن الله لا معقب لحكمه ، ويفعل ما يريد.

قال حضرة الشيخ مخاطبا لخليفة الشيخ حسين الإزميدي : إن اللسان شريعة ، والجنان حقيقة ، والنظر إلى الظاهر في مرتبة الشريعة ؛ فمن ادّعى من أهل بيتك محبة الله ومحبة رسوله وأجرى كلمتي الشهادة على لسانه فاحببه أنت ، سواء أحبك أو لا ، ومن لم يحب الله ورسوله بل أبغضهما فابغض إليه أنت ، سواء أبغضك أم لا ؛ فالأول : هو الحب في الله ، والثاني : هو البغض لله ؛ فمن أحببته لحبك ، فهذا هو الحب للنفس لا لله ، ومن أبغضته لبغضه لك ؛ فهو البغض للنفس لا لله ، وكلاهما مذموم ؛ لأن الله تعالى يقول : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [الزمر : ٣] ؛ فالخالص هو الأولان ، والمشوب هو الأخيران ثم فرق بين الخالص ، والمخلص بكسر اللام ، والمخلص بفتح اللام ورجح الأول ؛ لأنه خالص أصلي بالنظر إلى أنه ثلاثي ، والمجرد مقدم على المزيد ، وهو المتخلص والمخلص.

ثم قال : صبيان الحقيقة كالخنثى فله ذكورة وأنوثة ، واللائق أن يكون المرء من الرجال لا الخناثي والإناث ثم تلا قوله تعالى : (لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦] ، وقوله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء : ٣٤].

وقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء : ٣٢] ، وبعد بسط كثير الكلام (١).

__________________

(١) قال الشيخ المصنف في تفسير هذه الآية ما نصه : «فإنه صريح في جريان التمنى بين فريقي الرجال والنساء ، والمعنى لكل من الفريقين في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده ، وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاء حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه به بحيث لا يتخطاه إلى غيره ، فإن

٤٠٨

قال حضرة الشيخ : هذه الكلمات ببالي وقت السّلام الصلاتي ، فأردت أن أخاطبك بها يعني هذا الفقير ثم صرفت العنان إلى الشيخ حسين ، أقول ذلك ؛ لأن الشيخ حسين كان ضجورا متنفرا من أهل بلدته إزميد ، فأراد حضرة الشيخ تربيته بهذه الكلمات فخاطبه ، وكان الشيخ حسين مهموما من حيث إن واحدا من أتباعه كان ذهب إلى مدينة أدرنه لمصلحة له مهمة فعند تكلم الكلمات ورد البشير والورق بأن المصلحة قد تمت ، فاستبشر حضرة الشيخ والحاضرون ، فقرأ حسين أفندي قوله تعالى : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل : ٤٠].

وقوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)

__________________

ـ ذلك مما يوجب الانتهاء عن التمنى المذكور (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي : لا تتمنوا ما يختص بغيركم (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان ، ففضله عن علم وحكمة وتبيان ، وفى الحديث «لن يزال الناس بخير ما تباينوا» أي : تفاوتوا «فإذا تساووا هلكوا» وذلك لاختلال النظام المرتبط بذلك. وقد يقال معناه أنه لا يغتم لتفاوت الناس في المراتب والصنائع بأن يكون مثلا بعضهم أميرا وبعضهم سلطانا وبعضهم وزيرا وبعضهم رئيسا وبعضهم أهل الصنائع لتوقف النظام عليه. واعلم أن مراتب السعادات إما نفسانية كالذكاء التام والحدس الكامل والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية كالعفة والشجاعة وغير ذلك ، وإما بدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل فى ذلك مع اللذة والبهجة ، وإما خارجية ككثرة الأولاد الصلحاء وكثرة العشائر وكثرة الأصدقاء والأعوان والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا لقلوب الناس حسن الذكر فيهم فهي مجامع السعادات ، والإنسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لإنسان ووجد نفسه خاليا عن جملتها أو عن أكثرها ، فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ، ثم يعرض هاهنا حالتان إحداهما أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان ، والأخرى ألا يتمنى ذلك بل يتمنى حصول مثلها له والأول هو الحسد المذموم ، لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه ، والإحسان إلى عبيده والجود إليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الإنسان فيكون هذا اعتراضا على الله وقدحا في حكمته وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ويزيل عن قلبه نور الإيمان وكما أن الحسد سبب الفساد في الدين فكذلك هو سبب الفساد في الدنيا ، فإنه يقطع المودة والمحبة والموالاة وينقلب كل ذلك إلى أضدادها فلهذا السبب نهى الله عباده عنه بقوله (وَلا تَتَمَنَّوْا) الآية فلا بد لكل عاقل من الرضا بقضاء الله تعالى. كما في روح البيان (٢ / ٤٥٣).

٤٠٩

[يونس : ٥٨]. قال : تمّت مصلحتك ولو لم تكن مهموما لها تجده خيرا لك ؛ فإن الأمر بيد الله ، وتدبير النفس لا يغني شيئا وما تعده عسيرا فهو يسر بالنسبة إلى الله تعالى ، بل العسر واليسر بالنسبة إلى العبد واللازم على العبد تفويض الأمر إلى الله تعالى فلو أدخله في الجحيم ينبغي أن يعدها نعمة ؛ لأنه بصنع الله الذي هو المبتلي لا بصنع الغير.

قال حضرة الشيخ في قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] : من جهة المال في مرتبة الشريعة كذلك من جهة العلم في مرتبة الحقيقة ؛ لأن الذكر الحقيقي هو أهل الحقيقة الوارثون لعلم الظاهر والباطن والأنثى الحقيقية هي الشريعة الوارثون لعلم الظاهر فقط فالرجال حقيقتهم الذكورة وإن كانوا في صورة الإناث كمريم وآسيه وفاطمة وخديجة ـ رضي الله عنهن ـ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم : ١٢] حيث لم يقل : من القانتات إشارة إلى بلوغ مريم مبلغ الرجال.

ثم قال : إن الله يفتح لبعض الأولياء من العلم اللدني ما لم يفتحه للأنبياء ، ولكن لا يلزم من ذلك كون الولي أفضل من النبي ؛ لأن كماله كمال من وجه دون جميع الوجوه ، ولا يوجب إلى ذكر عائشة ـ رضي الله عنها ، وكلام الشيخ الأكبر ـ قدس‌سره ـ في حقها ، وفي حق سائر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فقال : إن الشيخ مأذون في الكلام في حق الكمّل أنبياء أو أولياء ، وليس لغيره ذلك الإذن.

قال حضرة الشيخ : عالم الدنيا خيال بالنسبة إلى عالم الآخرة ، وهو أيضا خيال بالنسبة إلى عالم الأمر ؛ فاليقظة في الدنيا نسبية وكذلك في العقبى واليقظة الحقيقية وراء ذلك ، وإنما قيل : لعالم العقبى عالم اليقظة من حيث إنه ناظر إلى عالم الأبد باق كبقاء الأرواح وإلا فالإمكان لا يزول ، وإن كان المرء في الجنة.

قال حضرة الشيخ : ليس لله تعالى ند ونظير إذ هو عين واحدة وشيء واحد ، ولا وجود للأعيان والأشياء والأعيان ، وإن كانت متضادة من حيث التعينات لكن ليس بين التعين والتعيين ضدية كالموصوف له أوصاف يضاد بعضها بعضا لكن لا

٤١٠

تضاد بينها وبين الموصوف فإذا لم يكن في الوجود سواه تعالى فيكف يوجد له نظير وند ، ثم قرأ قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) [فصلت : ٥٤] أي : لقاء العين بالمتعين وغافلين عن ذلك ، (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠] لأن صور الموجودات تعيناته تعالى لا تعينات الغير نسأل الله اليقظة والشهود والوصول إلى معرفة وحدة الوجود ، أقول : هذا المعنى قد انكشف لي سابقا فعرفت به بطلان قول من قال : إن الله عالم بالكليات لا بالجزئيات ، وذلك لأن الآثار المختلفة مستندة إلى التعينات ، وهي ملاقية بالتعين الذي هو الفاعل الحقيقي فلا يعزب عن دائرة علمه وإحاطته تعالى مثقال ذرة في السماوات والأرض ، فكما أن الله يعلم ذاته فكذا صفاته المتجلية بها في صور الموجودات مطلقا وأفعاله الصادرة عنها في كل زمان وهو كل يوم في شأن ، وهذا مذاق معنوي عياني لا مدرك عقلي برهاني ، ومن هنا يعرف وجه كمال هيبة الأنبياء والأولياء وخشيتهم من جلال الله تعالى ولو في صورة الفطرة والذرة إذ هي كالبحر وكالشمس مجلي ومظهر لسانه من الشئون الإلهية ، فلذا كانت مراقبتهم دائمة باقية ، ثم إنه لا بد للسالك من الله بين هذا الموجود الساري فيه لئلا يرد وما هو أخس المظاهر الكونية مع أنه قيل لا تنكر البال في طوره ؛ فإنه بعض ظهوراته فافهم ؛ فإنه من مزالق الأقدام.

فرق حضرة الشيخ بين الكسب وبين أكل الوظيفة المتعينة ، فرجح الأول على الثاني ؛ لأن الأول يقول حين تعوده في حانوته مثلا : يا رب أرسل إليّ من يشتري متاعي ، فيذكر الله دون غيره.

وأما أهل الوظيفة فيعدون الأيام ، ويعمدون على ما عين لهم من المال ، ولا يتكلمون على فضل الله الملك المتعال.

قال : رأيت في «شرح المناسك» للشيخ على الفناري أنه قال : ارتحل أهل الله من الحرمين منذ ظهرت صلاة السلاطين للفقراء السالكين حينما صلى حضرة الشيخ صلاة المغرب والأوابين ليلة المعراج من سنة إحدى ومائة وألف ؛ فقال مقبلا على الأتباع : ليجعل الله ليلتكم هذه مباركة عليكم فرددناه بما قال.

٤١١

وقال : أوصلنا الله إلى سرّ المعراج ، وهل تدرون ما سره؟ مثلا قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٨ ـ ٩].

وقال : قوله : (ثُمَّ دَنا) إشارة إلى العروج والوصول ليلة المعراج ، وقوله : (فَتَدَلَّى) إشارة إلى النزول والرجوع.

وقوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) بمنزلة النتيجة إشارة إلى الوصول إلى العالم المشار إليه بقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ٢].

وقوله : (أَوْ أَدْنى) إشارة إلى الوصول إلى عالم الذات المشار إليها بقوله تعالى : (اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ، وذلك في سورة الإخلاص.

ثم قال : هذا المعراج كان في الليلة دون النهار ؛ لأن الليل سر الفناء كما أن النهار سر البقاء ، وكان أيضا في صورة الصعود والهبوط ؛ لأنه وقع بالجسم والروح معا ، ثم فصّل وقال : المعراج إما بالجسم والروح معا ، أو بالروح والعلم ، والأول مخصوص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنه عرج بروحه ثلاثا وثلاثين مرة ، وبجسمه وروحه مرة ، والثاني يوجد في الأولياء أيضا إلا الضعفاء ؛ فإنهم يعرجون في المنام والأقوياء في اليقظة حال الانسلاخ التام ، ومنهم من لا ينفك عن المعراج كل لحظة ، وذلك بالعلم الإلهي الكلي ؛ فإنه تعالى يكاشف عن أسرار آياته الأنفسية والآفاقية ؛ فيريها له كما قال : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣] ، والرائي في المعراج الروحاني عين البصيرة لا عين البصر فإن للكاملين عينين ظاهرة وباطنة فيرى بالظاهرة عالم الملك والشهادة ويعطي بها ما يستحقه ويرى بالباطنة عالم الملكوت والغيب ويعطى بها حقه أيضا مثلا ينظر إلى أهل الظاهر بالعين الظاهرة ويعاملهم بما يناسب حالهم ، وينظر إلى أهل الباطن بالعين الباطنة ويجاملهم بما يناسب بحالهم فلا يحجب بواحدة منها عن الأخرى كما احتجب أهل الظاهر عن رؤية أهل الحقيقة ؛ لأنه ليس له العين الباطنة ، وأهل الباطن احتجوا عن رؤية أهل الظاهر ؛ لأنه ليس له العين الظاهرة أي : النظر الكامل بمرتبتها والكمال فإن صاحبه ينفق على كل واحد من الفريقين حقه.

٤١٢

ثم قال : المرء إما واصل ، وإما غير واصل إلى هذه الأسرار.

أما الواصل فلا كلام فيه.

وأما غير الواصل ؛ فإن كانت عزيمته على عدم الانقطاع من المجاهدة إلى الموت فذلك كالواصل ؛ لأنه في طريق الوصول.

ثم قال : الصلاة إما لأجل الثواب أو لله تعالى فما كان للثواب لا يكون لله تعالى ، وصاحبه أجير ، وما كان لله فصاحبه عبد حق وأجره أوفر وأكثر.

ثم قال : أيكم يؤم لنا ويصلي بنا صلاة التسابيح بعد العشاء ، وقد قال قبل يوم : أيكم يصلي بنا ليلة المعراج صلاة التسابيح؟ وكنت قد اعتذرت بالزكام فاختاروا هذا الفقير فصليت بهم تلك الصلاة على الرواية الراجحة ، وهي التي ليست فيها جلسة الاستراحة بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى ، والحمد لله تعالى.

ذكر حضرة الشيخ خليفة الشيخ حسين الإزميدي ؛ فقال : إنه قد دخله الشك في أمر الرزق والتردد والإنكار في الاعتقاد ، ولكن يلزم للمريد الطاعة لأمر الشيخ والثبات في الأرض التي استخلفه فيها ؛ فإن الشيخ من أولى الأمر للمريد ، ولا بد من المتابعة للقضاء والاقتفاء والتسليم ولا يكون القضاء تابعا له ، والمريد من لا إرادة له والمؤيد من عند الله تعالى ، وإن وقع اضطراب من جهة النفس في بعض الأحيان كما يقع لأرباب النفوس البشري لكنه لا يستقر عليه بل يتحول إلى السكون والأنس وهذا غير مضطر في طريقه لقبوله الزوال ، وإنما ذلك تربية له ، ثم تلا قوله تعالى على هذا التأويل : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي : بالله عما سوى الله (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) [الأعراف : ٢٠١] إما بحسب الدنيا أو بحسب العقبى ، والشيطان ، والنفس ، والحلال أمر واحد في الحقيقة ، لكن الأول بحسب الشريعة.

والثاني بحسب الطريقة.

والثالث بحسب الحقيقة إذ لكل مقام عبادة مخصوصة به ولا بد من الاعتبار ، فنصوا بحسب الظاهر إذ لا تردد في اعتقاده فقد تمسك ما تمسك باعتبار أنه حق

٤١٣

وصدق واقع بخلاف التردد ؛ فإنه مذبذب وليس ذلك إلا بمقتضى استعداده ، ثم أخبر عن نفسه فقال : إني كنت ابن سبع عشرة حين دخولي في الطريق ، ومنذ قد دخلت انحل العقد الأول بالتقوى لأمر الله تعالى ، وأن الله إذا أراد بعيده خيرا وجذبه إلى جانبه زاد في تجرده وانقطاعه إلى آخر العمر ، قال : لا نفع له من إقرار واحد كما لا ضر من إنكاره.

وقال : المريد لا يعرف حال شيخه ولا يعتقده حق الاعتقاد ما دام لم يصل إلى مرتبته إلا أن يعرفه الله قبله ، وهذا الشأن لا يكون من خارج بل من داخل فلا بد للعبد من الافتقار ورد التردد والإنكار من العلم والعرفان والشهود والعيان والتذكير والبيان وكثرة الصوفية والإخوان قيد لأهل الحق ولا بد من التجرد من القيود ، قال : من وصل إلى الله فهو قائم بالحق ، دائر بأمره مستمر ، فلو أدخل الله كل الخلائق الجنة دونه لم يتألم منه أصلا ؛ لأن الأنس بالله لا يتفاوت بالدخول والخروج والمقصود هو الأنس.

قال حضرة الشيخ : الابتلاء لا يزول إلى آخر العمر ، وإني إلى الآن مرة ابتليت بالبسط ومرة بالقبض والانقباض ؛ لأن الكل قضاء الله تعالى ، قال في حق موسى عليه‌السلام : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [طه : ٤٠].

قال أحد العلماء : أي : وطحناك طحنا ، قال : إن يونس عليه‌السلام كان له إذن في أمر الخروج بحسب الحقيقة لكنه لما لم يكن مقارنا بالإذن الصوري ابتلاه الله بالحوت فالاحتياط لازم.

قال : إن بعض المريدين بل الخلفاء لو أظهرت لهم ما أنعم الله به عليّ من الأسرار والحقائق لفروا مني كما يفرون من الأصنام لعدم ثباتهم في أمر الاعتقاد ، ولا بد من الفرار إلى الله تعالى من كل قيد وعلاقة وترك الحق خلفه كما قال تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] فإن الحضور في ذلك.

قال حضرة الشيخ : إن بعضهم يتسارع انكشافه وبعضهم يحصل له على

٤١٤

التأني ثم أنشد قول الهدائي في بعض مفرداته التركية [...].

قال حضرة الشيخ : رأيت شيخي الصغير في المنام ، وقلت : هل أنت راض عني؟ قال : نعم ، فكررت اطمئنانا فلم يزل يشير بالرضا ثم أمرني باجتناء من بعض ثمرات حديقة ، فاستيقظت.

قال حضرة الشيخ : أولاد العرب أشد كبرا وفخرا من غيرهم فمن قابلهم بالتقدم أخروه ، ومن قابلهم بالتأخر قدموه ، وفيه سر «من تواضع لله رفعه الله ، ومن تكبر وضعه الله».

فقلت : هذه المعاملة تحتاج إلى سعة الأخلاق ؛ فإنه لا يتحمل أوضاعهم إلا القليل من أفراد الرجال ، قال : نعم ، وجاملناهم غاية المجاملة حين مررنا بمصر في طريق الحج فعظمونا ، وبجلونا وشيعنا حين الخروج منها قريب من أربعمائة من شيوخهم وعلمائهم ، خصوصا إبراهيم اللقاني شيخ الحديث ، وصاحب السلسلة ، ومختار الكل ، وبكوا علينا بكاء شديدا.

وتلا حضرة الشيخ قوله تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٩] ، وقال : إن أهل الإسلام كثيرون بالنسبة إلى الجانبين كما ترى أن كفار «نمجة» وهم كثيرون بالنسبة إلى كفار فرانسز ، فأسوته تشير إلى الجانبين كما ترى ، وكما أن كفار نمجة محاربون مع فرانسز ، كما كانوا محاربين مع أهل الإسلام ، وقد هزموا أهل الإسلام مرات وهزمهم ـ أي : نمجة ـ كفار فرانسز مررا ، والكل بيد الله.

قال حضرة الشيخ : ليس الوصلة بيني وبين خلفائي إلا من الوصية ؛ فإن الله تعالى يقول : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ٣] فالوصية بالحق والصبر لا بد لي منها في حق الكل خصوصا في حقهم.

قلت لحضرة الشيخ : أصعب شيء عندي أمر إصلاح الأخلاق.

قال : أين نحن من ذلك ؛ فإن المصلح هو الله ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى :

٤١٥

(بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٩] ، (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [النور : ٢١] فالكل من عند الله.

كان حضرة الشيخ قد أشار إلي بالمكث إلى آخر رجب فلما تمت المدة عين يوم السبت للخروج ، وهو الرابع من شعبان فقبلت يده الشريفة بعد صلاة الفجر من ذلك اليوم فدعا لي دعاء جامعا دنياويّا وأخراويّا ، وقال في آخره : هذه العبارة التركية [...].

* * *

٤١٦

الزيارة السابعة

هذه الزيارة آخر الزيارات وهي قبرصية ، وقعت في هلال سنة اثنتين ومائة وألف ، وقد سبق سببها ، وبعض كلماتها على التفصيل فلا نعيده ولا علينا أن نشير إلى البعض الآخر منها.

قال حضرة الشيخ : إن استناد الكفار إلى الأحجار ألا ترى على القلاع والحصون ، واستناد المؤمنين إلى لا إله إلا الله ألا ترى أنهم لا يتحصنون بحصن سوى التوكل عليه تعالى وهو يكفيهم ، قال : «لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي» (١).

قال حضرة الشيخ : إن حسام أفندي المدفون في «استانكوي» من أجلة مشايخ الطريقة ، وقد مضى منذ مات قريبا من المائة ، وهو أستاذي المعنوي ؛ لأنه قد قرأت منه في المنام.

قال حضرة الشيخ : قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) [آل عمران : ١٤] الآية إشارة إلى أصحاب الشمال ، وقوله تعالى بعده : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران : ١٤] إشارة إلى المقربين من أصحاب الميمنة.

وقوله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) [آل عمران : ١٥].

الآية إشارة إلى الأبرار من أصحاب الميمنة ، ومقام العندية المأخوذة من قوله تعالى ، والله عنده أفضل وأعلى كأنه تعالى أشار بتعقيب الجنة بذلك أنكم أن كان لكم ميل إلى ما سوى المولى فليكن ذلك إلى الجنة لا إلى متاع الحياة الدنيا.

قال حضرة الشيخ : لا ينفخ الروح ما لم يكمل الجسد والجسد هو الشريعة والطريقة والروح هو المعرفة والحقيقة فإذا كمل شريعة السالك وطريقته فليرتقب نفخ روح المعرفة والحقيقة وإلا فلا.

قال حضرة الشيخ : أستاذ المرء وشيخه أعلى وأفضل من الأب الطيني ؛ لأن الأب الطيني موجود للكفار وأهل الإسلام مشتركون فيه ، ويمتاز المسلمون منهم بالأب الديني ، وهو المعلم والمرشد ، ثم قال : خير الآباء من علمك ، ووصى حضرة الشيخ بأن يقرأ المؤذن بعد إحدى وأربعين الصلوات على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أعقاب المكتوبة

__________________

(١) رواه القضاعي في الشهاب (٢ / ٣٢٣) ، والديلمي في الفردوس (٥ / ٢٥١).

٤١٧

على ما في وصايا حضرة الهدائي فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، و (شَهِدَ اللهُ ...) إلى قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٨ ـ ١٩].

و (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران : ٢٦ ـ ٢٧] ثم يسبح ويحمد ويكبر ، وذلك في دبر كل صلاة على ما في معالم التنزيل.

قال المشايخ : اتخذوا الخانقاهات لأجل أن يشتغلوا فيها بإتباعهم بإحياء مثل هذه الأمور ، ومعنى الإحياء : ترك الإهمال ، والأخذ بالاستعمال ، ثم وصى بترك القيل والقال ، وترك أسباب الاشتهار ، وبأخذ الخمول والمجاهدة مع النفس والطبيعة.

وقال : إن القوى الطبيعية والنفسانية ككفار الإنس والجن ، والقوى القلبية والروحانية كمسلميهم ، والملك فكما أن الجهاد في الظاهر بين المسلم والكافر ماض إلى يوم القيامة ، فكذا الجهاد في الباطن بين القوى ، وإن الله لا يجرد العبد من كل علاقة في كل زمان ، بل يسلبه في بعض الأحيان ، وإن كان إنسانا كاملا يبقى على المجاهدة ؛ فإن الإنسان لم يترك سدى.

قال حضرة الشيخ : معنى نداء المؤذن : صلوا على النبي عليه‌السلام إحدى عشرة صلاة ، أن الأفلاك سبعة وبالعرش والكرسي واللوح والقلم ، يصير المجموع أحد عشر ، والصلوات بعدها إشارة إلى نزول الفيض من هذا المذكور ، ولا تعين فوق هذا روحانيا أو جسمانيا ، ولهذا انحصرت الصلوات عند البعض في العدد المذكور ، ثم حضرة الهدائي اختار إحدى وأربعين مرة فنحن على الامتثال ، ولا شغل لنا غير الطاعات والأعمال ؛ فاجتهدوا أنتم حتى تكونوا متبعين لنا في هذا الباب ، وحتى يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة : [خوش كلدك] ؛ والله تعالى [خوش كلدك خاصة قوله] فإن المراد بإحياء ما أهمله الناس من السنن والمستحبات أن يكون المرء عبدا خاصا صاحب عزيمة وتقوى ، والله تعالى قال : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] إشارة إلى أرباب الرخصة من المؤمنين.

وقال أيضا : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] إشارة إلى أصحاب العزيمة منهم فكل ضرر في الدنيا والآخرة إنما يأتي من الإهمال ، ثم دعا مرتين دعاء جامعا.

٤١٨

وجاء إلى حضرة الشيخ واحد من الأطفال بخبرين فلاطفه ، وقال : إن الطفل قريب العهد إلى عالم الذات ، وفيه رائحة ذلك العالم ، ولذلك يستأنس به الشيوخ ، وينزلون إلى مرتبته في التكلم وغيره.

جمع حضرة الشيخ الصوفية ، وهم أربعة أنفار غير ولده السيد مصطفى والفقير ؛ فقال : اعلموا أن أول من ابتلى بالاحتلام أبونا آدم عليه‌السلام فإذا وقع لأحد منكم فاغتسلوا تحت هذه الغرفة في المحل المهيأ للوضوء والاغتسال ، ولا تستحيوا ، وارفعوا التكلف من البين في الدخول والخروج ؛ فإني لا أرضى بغير ذلك ، أقول : إن روح الله روحه تنزل نفسه في أواخر عمره منزلة واحد من الناس ـ يعني : عند أتباعه ـ فلذا رفع الكلفة بل الخدمة ؛ فإنه كان لا يستعين أحدا في وضوئه أصلا.

قال حضرة الشيخ : إن عالم الفناء عالم القدس ، والتجرد بخلاف الرد إلى البقاء ؛ فإن الله تعالى يبتلي صاحبه بما يبتلي به أصحاب الطبيعة ، والنفس لكنه على اليقظة والعرفان وأصحابهما على الغفلة والجهل يعني : أن المردود إلى البقاء وإن كان مبتلى بأنواع البلايا لكنه على الله مع الله ، فلا يعتريه جزع ونحوه بل يحمد على النعمة والمحنة ويستغفر عند الذلة بخلاف غيره من الباقين في الفرق الأول ، ثم قال : كما أن الوجود لله تعالى حال الفناء فكذا حال البقاء ، وإن كان مضافا إلى العبد صورة ألا ترى أن من ركب دابة ، فقد يقال : إن له دابة لكن ليس له دابة فكما أنه مسلوب عنه تلك الإضافة حال عدم الركوب ، فكذا في حال الركوب وهذا من مزالق الأقدام ، قلت : هل ترفع الانقباض من أخلاق النفس؟ قال : لا ولو كان نبيّا ؛ فإن الله تعالى لا يدع العبد في الدنيا على يد واحدة وهي الجمال الصرف ، وإنما يكون ذلك في الجنة إذ الابتلاء يرتفع هناك ، وكل ورد التزم يحتمل السقوط إلا ورد الاستغفار ؛ فإنه باق إلى آخر العمر بمكان الابتلاء بالمجاهدة ما دام حيا ولو عين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستغفار كل يوم مرة وعرف أنه يستغفر ربه كل يوم هذا العدد ، قال : ومن هذا ظهر أن الاستغفار ليس في ترتيب الأسماء السبعة لعدم خلو كل مقام عنه ولو كان فيه بخلاف نفسه عن بعض المقامات وليس كذلك.

قال حضرة الشيخ : قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٦] إشارة إلى أهل اليقظة حسناتهم غالبة على سيئاتهم.

وقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٨] إشارة إلى أهل الغفلة لما

٤١٩

أن سيئاتهم غالبة على حسناتهم والحكم للغالب في الفريقين فظهر أنهم مشتركون في فعل السيئة ولو بحسب مراتبهم ، ولا يرتفع ذلك الابتلاء عنهم ، ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ رضي الله عنه :

«يا عليّ ، إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة» (١) لما أنه مقتضى اسم الغفور.

وقد كان عليه‌السلام يعلم أنه يعمل السيئة ، ولو في بعض الأحيان ، ولو بحسب الفكر ، ولذا وصى بالحسنة ، وإنما قلنا بحسب الفكر ؛ لأن ما يدور في جنان أرباب العزيمة مأخوذ به.

ثم قال : والحاصل أن توارد الليل والنهار إشارة إلى توارد السيئة والحسنة فكما أن الدنيا لا تبقى على الليل وحده أو النهار وحده بل هما على التعاقب دائما فكذا العبد المؤمن لا يخلو من نور العمل الصالح وظلمة العمل الفاسد والفكر الفاسد فإذا كان يوم القيامة يلقي الله الليل في جهنم والنهار في الجنة ، فلا يكون في الجنة ليل كما لا يكون في النار نهار. يعني أن النهار في الجنة هو نور إيمان المؤمن ونور عمله الصالح بحسب مرتبته ، والليل في النار هو ظلمة كفر الكافر وظلمة عمله الفاسد فكما أن الكفر لا يكون إيمانا فكذا الليل لا يكون نهارا ، والنار لا تكون نورا فيبقى كلّ من أهل النور ، والنار على صفته الغالبة عليه ، وأما القلب وحاله بحسب التجلي فهو على عكس الحال الغالب ؛ فإن نهاره المعنوي لا يتعاقب عليه الليل ، وإن كان يطرأ عليه استناد في بعض الأوقات.

قال حضرة الشيخ : في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال : ٢٤] : إن من حيلولته تعالى بين المرء وقلبه أن يحب بعض العباد الشغل بالعلم والمعرفة وغيرهما وبعضهم الشغل بخلاف ذلك ولو عرض على أحدهما شغل الآخر لتنفر وأعرض ، وقلب المرء بين أصبع من أصابع الرحمن.

قال حضرة الشيخ : أنا في عالم الغربة عند ست سنين ، قلت : ورد فطوبى للغرباء ، قال : من هو في عالم الغربة كمن بقي وحده في البحر المحيط ، وإلى هذه المرتبة أشار عليه‌السلام : «كنت يتيما في الصغر ، وغريبا في الكبر» (٢).

__________________

(١) رواه الطبراني في الكبير (٢٠ / ١٧٥) ، بنحوه عن معاذ.

(٢) لم أقف عليه.

٤٢٠