مرآة الحقائق - ج ٢

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ٢

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

بعض أحباب حضرة الشيخ في المنام حضرة الهدائي فقال له : إن قولنا (لا) بالنسبة إلى عالم الفرق ، فليس له أي : ل «لا» وجود في الحقيقة ؛ لأن النفي متوهم.

قال حضرة الشيخ : النفس مطية كل سالك ، وحق المطية أن يعطي علفها في الليل والنهار بعد قطع الطريق في النهار ، وكذا النفس يعطي حظها من الغذاء على الاعتدال في الليل والنهار بعد الإمساك في النهار.

فالمطية الأولى تقطع الطريق الصوري على أقدام الصورة فتصل إلى المنزل.

والمطية الثانية تقطع الطريق المعنوي على أقدام المعنوي فتصل إلى المطلوب ، فلا بدّ من الحركة ؛ فإن الفرق في السكون.

كنت عند حضرة الشيخ في ساحل النهر في دار السلطان محمد الرابع قبيل المغرب ، وكان مدعوا للوعظ والتذكير ، فقلت : الحمد لله على أنه ليس لي رائحة لدعوى أصلا وإنما بضاعتي الآن العجز والافتقار.

فقال حضرة الشيخ : نعوذ بالله من النفس ودعواها الجلية والخفية ، فتفطنت على الفور أن في كلامه هذا نوعا من التأديب لي خفيّا ، وذلك لأن مكر النفس وحيلها أخفى من دبيب النمل على الصخرة الصماء ، فالدعوى عدم الدعوى ، و «القول ما قالت حذام» (١).

قال حضرة الشيخ : من عرف نفسه من حيث إنه إجمال لتفصيل العالم ، وفيه ما فيه ، وعرف أن الأكوان صور الأسماء الإلهية عبارة عن الذات المطلقة عرف ربه عرفانا لا يتداخله وهم ولا خيال ، ولا يعتريه شرك ولا ضلال.

وقال حضرة الشيخ : التلوين تلوينان : تلوين قبل التحقيق وهو تلوين أهل الحجاب ، وتلوين بعد التحقيق وهو تلوين أهل الكشف.

والتمكين أيضا تمكينان : تمكين في التحقيق بعد التلوين وهو تمكين أهل الفناء ، وتمكين في التلوين بعد التحقيق وهو تمكين أهل البقاء.

قال حضرة الشيخ : إن المريد في الشريعة من لا إرادة له ؛ لأن الشريعة تثبت الإرادة لغير الله تعالى ، والمريد في الحقيقة من لا إرادة له لأن الحقيقة في الباطن ، وأثبت ما أثبتته الشريعة في الظاهر ، ونفي ما نفته الحقيقة في الباطن حتى يكون عبدا معتدلا متوسطا على مشرب الأنبياء العظام ، ومذهب الأولياء الكرام من السابقين

__________________

(١) انظر : جمهرة الأمثال (١١٣١) ، والمستقصي (٤٧٣).

٣٤١

المقربين ، لكن اجتهد في أن تكون مريدا في الحقيقة فانيّا عن إرادة الدنيا والعقبى مطلقا حتى تكون عبدا مخلصا وفانيا عن إرادة المولى حتى تكون عبدا مخلصا بالفتح ، فإذا كنت كذلك كنت عبدا حقّا مطلقا حرّا عن الرق جميعا معدوما بنفسه ، موجودا بربه ، وكيلا له ربه في الإرادة مطلقا ، يريد له ربه الدنيا والعقبى والمولى ، ويحصل له الكل بلا احتمال هلاك ، ولا خطر ، ومن كان كذا فأولئك هم المفلحون الفائزون الناجون مطلقا ، وهم الخالصون المخلصون (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [الزمر : ٣] (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] وهم الذين ورد فيهم : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢].

قال حضرة الشيخ : إن إبراهيم عليه‌السلام له التحقق بجميع مراتب التوحيد من الأفعال ، والصفات ، والذات ، وذلك ؛ لأن الحجب الكلية ثلاث هي : المال والولد والبدن ، فتوحيد الأفعال إنما يحصل بالفناء عن المال ، وتوحيد الصفات بالفناء عن الولد ، وتوحيد الذات بالفناء عن الجسم والروح ، فتلك الحجب على الترتيب بمقابلة هذه المقامات عن التوحيد ، فأخذ الله عن إبراهيم المال تحقيقا للتوحيد الأول ، وابتلاه بذبح الولد تحقيقا للتوحيد الثاني ، وبجسم الروحي حين رمى به في نار نمرود تحقيقا للتوحيد الثالث ؛ فظهر من هذا كله فناؤه في الله ، وبقاؤه بالله.

قال : واستلام الغنم أقوى من استلام سائر الحيوانات ، وكذا كان الكبش فداء إسماعيل عليه‌السلام ، ولذا أيضا من رأى في المنام شاة من أرباب النهاية والوصول فرؤياه تدل على كمال الانقياد والتسليم ، ومن رآها من أرباب البداية ، فذلك يدل على حال الطبيعة والشهوة ؛ لأن الطبيعة غالبة في الشاة ، ومن رآها من أرباب التوسط ؛ فإن أردت أن يحصل له الترقي والانجذاب إلى ما فوق مرتبته فعبرها بالاستلام ، وإن أردت أن يحصل له الطهارة والتزكية فعبرها بالطبيعة.

ومثل هذا من اللطائف الجارية بين المريد والمرشد فشاء المريد الاستلام التام لشيخه كاستلام الشاة للذبح حتى ينال الفيض والحياة الحقانية.

قال حضرة الشيخ : جميع الأطعمة والأشربة يعبر بما هو كثيف ولطيف ، فالكثيف إشارة إلى العلم الظاهر ؛ لأنه مكون كالقشر من اللب كثيف ، واللطيف والألطف إشارة إلى العلم الباطن ؛ لأنه كاللب من القشر لطيف ، ووجه التعبير بذلك هو أن الأغذية الجسمانية تقوي البدن على الأعمال والطاعات.

٣٤٢

والأغذية الروحانية تقوى القلب والروح على التوجه إلى حضرة الذات.

والعلم الصوري كالغذاء الجسماني من حيث إن نفعه في ظواهر الأحكام.

والعلم الحقيقي كالغذاء الروحاني من أن نفعه في بواطن الأمور ، فشرب اللبن في المنام بالنسبة إلى علماء الرسوم يعبر بزيادة العلم من حيث الظاهر ، وبالنسبة إلى علماء الحقيقة يعبر بزيادة من حيث الباطن ، ويعبر النفس اللبن بالنسبة إلى الطائفة الأولى ، والزائد المشتمل هو عليه بالنسبة إلى الثانية.

قال حضرة الشيخ في قوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) [الحديد : ٢٧] : إن السنن النبوية مستنبطة عن الكتاب ، وسنن أهل الولاية من السنة ، والمقصود من الكل استكمال النفس علما وعملا.

فإن قلت : ما وجه الزيادات الصادرة من مشايخ الطريقة؟

قلت : لأنه لما تباعد العهد منه عليه‌السلام بعدت الأفهام عن درك الحق ، وتضاعفت الحجب ، وقست القلوب ، وضعفت الاستعدادات ، فزادوا هذه الزيادات عونا للضعفاء على تحصيل مطالبهم ، وإرشادا إلى ابتغاء الوسيلة بحسب المراتب ، وما فعلوها من عند أنفسهم بل بإلهام الله تعالى ، ولذا قال بعض الكبار : ما يصدر عن الواصل من الأفعال شريعة ، وكذا الباقي فاعتبروا حفظ الإجمال لتنقل منه إلى تفصيل الحال.

قال حضرة الشيخ : المرئي في المرآة هو الوجود الظلي ، والمرآة مجلاة ، لكن الوجود الظلي أيضا مرآة لحال المرآة من الاستدارة والاستطالة وغيرهما ، فكما أن الوجود الظلي لا يدرى إلا في المرآة ، فكذا لا يشاهد حال المرآة إلا في الوجود الظلي ، ومن هنا قال العلماء بالله : إن الأكوان مرائي للوجود الظلي للأعيان الثابتة ، فلا يشاهد فيها إلا ظل تلك الأعيان.

وكذا الموجودات الظلية مرائي للأكوان فلا تعطي إلا حالها وصورتها ، والوجود واحد في كل مظهر ، لكن بحسب الرائي تختلف الأحوال فاختلافها لا يستلزم اختلاف الوجود ، فكل من الوجود الظلي ومرائي خيال معدوم في حد ذاته كالمرآة والمرآة فيها ، وإنما الوجود الحقيقي للأعيان بل للذات الأحدية فافهم.

ولا يتوهم أن الوجود قد انتقل من الأعيان إلى الأكوان والمرائي هو الوجود

٣٤٣

الحقيقي ؛ فإن الأعيان على ما كانت عليه ، وليس في البين إلا الظل والخيال.

وقال حضرة الشيخ : أول ما بدأ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، وكانت مدتها ستة أشهر على ما هو أدنى مدة الحمل ، ثم جاء الملك فعبر عن المثال المقيد إلى المثال المطلق ، ولذا نقول : إن تعبير الرؤيا إنما هو في النفس الأمارة واللوامة ، فإذا وصل السالك إلى المهمة قل احتياجه إلى التعبير ؛ لأنه حينئذ يكون ملهما من عند الله كما هو صريح قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٨] فمرتبة الإلهام له كرتبة مجيء الملك للرسول عليه‌السلام.

ويقال لعالم الرؤيا : عالم المثال المقيد بالنوم لتمثل الأشياء فيه ، ويطلق على عالم الأرواح أيضا لكنه لطيف بالنسبة إليه ، كما أنه لطيف بالإضافة إلى عالم الأجسام.

واعلم أن الخيال هو في لسان القوم هو الحقيقة ، فالخيال المطلق ، والمثال المطلق شيء واحد ، وهو ما تراه في اليقظة بالبصر ، وهو العرش وما دونه من العناصر والمواليد ، وكذا الخيال المقيد والمثال أمر واحد وهو عالم المنام وعالم الانسلاخ وعالم البرزخ ، والانسلاخ قرن المنام في الرتبة ؛ فإنه حال الكمّل.

ثم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأخذ الوحي إلا في حضرة الخيال المطلق أو المقيد بالانسلاخ ، إلا أنه لا يبقى لأهل الانسلاخ إحساس لمعنى عنده أصلا ، ويعرض لجسده فتور ، فإذا تم الأمر رجع إلى حاله وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) [البقرة : ٢٤٥] فالقبض إشارة إلى الانسلاخ ، والبسط إلى العود إلى الحياة الأولى ، فإذا قبضه بالانسلاخ بسط في حضرة المثال القيد ، وإذا بسط بالرجوع قبضه في حضرة المثال المطلق ، أو نقول : يقبضه من المثال المطلق ، ويبسط في القيد ، ويقبض في القيد ، ويبسط في المطلق.

سألت حضرة الشيخ عن التوفيق بين قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٦] وبين قوله : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) [الملك : ٢٢] الآية.

فأفاد أن الأول إطلاقي حقيقي ، والثاني تقييدي إضافي بالماشي مكبّا على وجهه على صراط مستقيم في الحقيقة ، يمشى به ربه إلى غاية ما ، وإن كان في الصورة على الضالية دون الاستقامة.

٣٤٤

والحاصل أن الفرق يعتبر الضلال ، والجمع يرفع الإشكال ، والأول بحسب البداية ، والثاني بحسب النهاية ، ولا يلزم من الضلالة في البداية عدم الهداية في النهاية ، فإن البداية والنهاية واحدة ، كما أشار إليه قوله : «سبقت رحمتي غضبي» (١).

وقول حضرة الشيخ الهدائي في بعض الإلهيات التركية : [...](٢) وفيه تفصيل عجيب يحال على الذوق ، فافهم ، واثبت على الصراط المستقيم ، ولا تكن من المكبين على وجوههم ، واعتبروا الضلال ضلالا ، والهدى هدى ؛ فإن الشريعة هادية إلى كل منهما ، وإياك وسوء الظن في حق الصوفية ؛ فإن مقالاتهم تحصيل معاني لا تدرك بالعقول ، وإن كانت مستنبطة من النقول ، والله الهادي ، وعليه اعتمادي واستنادي.

قال حضرة الشيخ في قوله عليه‌السلام : «إن الله فرد يحب الفرد» (٣) : إن مقام الفردية يقتضي التثليث ، فهو ذات وصفة وفعل ، وأمر الإيجاد يبتني على ذلك ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] إرادة وقولا ، والقول بعد الإعلان باللقاء ، فليس عند الحقيقة هناك قول ، وإنما هو لقاء الموجد ـ اسم فاعل ـ بالموجد ـ اسم مفعول ـ وسريان هويته إليه ، وظهور صفته وفعله فيه ، فافهم هذه الدقة ، فإنها إرادة عن مقام الحقيقة.

قال حضرة الشيخ : إذا قلت : لا إله إلا الله ، فشاهد بالشهود الحقاني فناء أفعال الخلق ، وصفاتهم ، وذواتهم في أفعال الحق سبحانه ، وصفاته ، وذاته وهذا مقتضى الجمع والأحدية ، وتلك الكلمة في الحقيقة إشارة إلى هذه المرتبة.

وإذا قلت : محمد رسول الله فشاهد بالشهود الحقاني أيضا بقاء بأفعالهم وصفاتهم وذواتهم بأفعاله تعالى وصفاته وذاته ، وهذا مقتضى الفرق والواحدية ، وتلك الكلمة أيضا في الحقيقة إشارة إلى هذه المرتبة ، فإذا كان توحيد العبد على هذه المشاهدة فلا جرم أن توحيده يكون توحيدا حقيقيّا حقانيّا لا رسميّا نفسانيّا ، وفي تحت هذه العبارة من الإشارات الخفية ما لا تعد ولا تحصى ، هدانا الله وإياكم إلى فتحها وذوقها.

وقال حضرة الشيخ في قول الهدائي ـ قدس‌سره ـ في بعض إلهياته التركية :

__________________

(١) رواه البخاري (٦٩٩٨) ، ومسلم (٤٩٤٠).

(٢) كلام تركي.

(٣) ذكره المصنف في تفسيره (٧ / ٢٥) ، (١١ / ٤٢١).

٣٤٥

[غالب اولوب حب وطن ، وحدت ديارنه كيدن ، صيغمز ارايه جان وتن سريله سيرايتمك كرك](١) المراد بلفظ «جان» : عالم الأرواح ، وبلفظ «تن» : عالم الأشباح ، وبلفظ «السر» : عالم الأمر الإلهي الذي يقابل الخلق المشار إليه بقوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ) [الأعراف : ٥٤] أشباح من الأجسام لكثافتهما بالنسبة إليه فلا يمكن سيره والدخول فيه إلا بعين السر أو القدم ، فلا يصل إلى اللطيف إلا الألطف.

قال حضرة الشيخ : الليل إشارة إلى النفس الأمارة ، والصبح الصادق إلى اللوامة ، والإسفار جدّا إلى الملهمة ، وطلوع الشمس إلى المطمئنة.

وآية الأولى قوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣].

وآية الثانية قوله تعالى : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة : ٢].

وآية الثالثة قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها) [الشمس : ٨].

وآية الرابعة قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [الفجر : ٢٧].

ولا يصل السالك إلى مرتبة النفس المطمئنة إلا بعد التجلي اليقيني الذي هو كطلوع الشمس ، فكما عند طلوعها لا يبقى أثر من ظلمة الليل أصلا فكذا عند التجلي العيني لا يبقى أثر من ظلمة النفس جدا بل تنكشف الحقيقة كما هي ، وتطمئن النفس اطمئنانا تامّا كما قال عليّ ـ كرم الله وجهه : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (٢) وذلك ؛ لأن غطاء الكثرة لا يحجب الواصل عن مشاهدة الواحدة ؛ لأنه قيامه دائما ، وأنه يرى عرش الرحمن بارزا ، والنعيم والجحيم ظاهرا ، فالتجلي العيني يعطى هذا الكشف والشهود بخلاف التجلي العلمي ؛ فإن له برازخ كثيرة ، وصاحبه لا يأمن العاقبة ؛ لأنه لم يتخلص من ظلمة ليل النفس قطعا فله بقية النفس مطلقا ، وإذا تيقنت هذا ، فاعلم أن سلوك الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ النفس المطمئنة إذ آخر مراتب الولاية أول مقامات النبوة ، ولا يكون الولي وليّا إلا بعد التجلي العيني ، وهو مرتبة النفس المطمئنة ، وهذا لا ينافي أن تكون نفوسهم أمارة بالقوة.

ألا ترى إلى قول يوسف عليه‌السلام : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣] ،

__________________

(١) كلام تركي.

(٢) رواه أبو نعيم في «الحلية» (١٠ / ٢٠٣) ، وذكره علي القاري في «المصنوع» (١ / ١٤٩).

٣٤٦

وقول نبينا عليه‌السلام : «فإن شيطاني قد أسلم» (١) وكل منهما قرين الآخر.

أقول : زلت في هذا أقدام أكثر السلاك ، ويؤيد ما ذكرنا ما في «التأويلات النجمية» عند قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] وهو أن النفس أمارة بالسوء ، وإن كانت نفس الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ انتهى.

وكذا قول المولى الجامي في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] يعني : في الحكم ؛ فإن الأعيان أنفسها لا تتبدل ، ولكن تنقلب أحكامها ، انتهى.

أي : كما ينقلب النحاس عن النحاسية إلى الفضية ، والفضة منها إلى الذهبية بعلم الإكسير والعين واحدة ، ومن فهم هنا رزق علما كثيرا ، هذا ، ولا مراء مع أهل المرية ، وليس وراء عبادته قربة.

قال حضرة الشيخ : الكامل الواصل إلى الله الفاني والباقي به مجرد عن كل لباس ومع ذلك فهو عند أهل لباس جسمانيين أو روحانيين ، وهو التفاوت الحقيقي الذي صاحبه في الدرجة العليا من الجنة ، كما أن صاحب النفاق الأصغر الحجازي في الدرك الأسفل من النار ، وبين رفيع الدرجات وخفيض الدركات تقابل تام.

فإن قلت : ما معنى النفاق الحقيقي؟

قلت : إظهار الوجود المختلفة للتعينات المتكثرة بحسب نشأته ، وإحاطة أسمائه وصفاته كما أن النفاق الشرعي إظهار الإيمان بوجه آخر.

قال حضرة الشيخ في قوله تعالى : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) : إن الله تعالى كان عنده ، وهو وكيله ، وخليفته في جميع أموره مما يأتي به ويذر ، ومقتضى آداب العبودية أن يترك التصرف لله تعالى ، ولا يتحرك بهمته إلى شيء لا إلى جانب وجوده ، ولا إلى جانب عدمه ، فاشتغال بعض الرجال بالاسم القهار مثلا لحصول بعض آثار القهر كهلاك شخص ومرضه ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة ، والمطالب النفسانية ذهول عن حقيقة الأمر ، ونزاع الملك ، والعياذ بالله تعالى.

أقول : اتفق لي مرة في دار السلطنة القسطنطينية أن أجلس مجلس الوعظ في مجمع عظيم من مشايخ وفيهم حضرة الشيخ فصدر مني كلمات زاجرة تكلم منها النفوس والقلوب القاسية ، فتألم منها بعض أهل الدعوى من الشيوخ الذين لهم

__________________

(١) رواه البيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٣٣١).

٣٤٧

الشهرة التامة الكاذبة.

وقال : أما يخاف هذا الواعظ الشاب وله شيبة من توجهنا المستأصل له ، فبلغني ذلك منه.

فقلت : ما أخاف ؛ فإن المحيي والمميت هو الله ، ودمر الله الباطل منا ، فلم يلبث الخبيث كثيرا حتى نفاه السلطان محمد الرابع بعد أن أراد قتله لكلمات كفرية صدرت منه ثم اهلكه الله ، ودفع ابتلاء الناس به فإنه كان قد أفسد قلوب كثير من المسلمين.

قال حضرة الشيخ في القول الشهير : «من لم يؤدبه الأبوان أدبه الملوان» : الليل بمثابة الأم كما قيل : الليلة حبلى ، والنهار بمنزلة الأب ، فالليلة كأنها حاملة ، فإذا أصبحنا فكأنها ولدتنا ، وسلمنا إلى تربية النهار ، فلا يزال المرء يتقلب في نهاره على أنواع من التربية إلى مجيء الليل ، فمن لم يؤدبه أبواه في الليل والنهار يؤدبه الحق فيما يقتضي الجمال والجلال.

سأل المولى خليل الشهير ب «عرب زاده» من علماء بلدة «أدرنة» : لم كان الكمال الملكي حضوريا ، وحصوله وقعيّا خلقيّا لا مكتسبا والكمال الإنساني تدريجيا اكتسابيّا؟

فأجاب حضرة الشيخ : بأن كمال الإنسان بجميع الجمال والجلال ، دون كمال غيره ، وأسماء الله تعالى إما جمالية متعلقة باللطف ، وإما جلالية متعلقة بالقهر ، وظهور أحكام الأسماء في الإنسان الكامل تدريجي لا دفعي ألا ترى أن الله تعالى لما تعرف لآدم بالإيجاد ناداه : «يا قدير» ثم تعرف له بتخصيص الإرادة ، فناداه : «يا مريد» ، وهكذا فكمال الإنسان كمال تدريجي يعني بالنسبة إلى النشأة العنصرية دفعي بالاعتبار إلى النشأة الروحانية ، ومنه يعرف كون العلم حضوريّا وحصوليّا ؛ فإن كونه حضوريا بالنسبة إلى مرتبة الروح ، وكونه حصوليّا بالنسبة إلى مرتبة الجسم ، وإلى الأول يشير قوله تعالى حكاية عن إقرار العبودية : (قالُوا بَلى).

قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] ؛ فإن هذا التعليم تذكير لما نسبه بعد تعلق الروح ببدنه ونزوله من عالم الأمر إلى عالم الخلق ، فالعلم والكمال موجود بالفعل في الروح بالنسبة الأولى ، وبالقوة بالنسبة الثانية ، وبالكسب يتوصل إلى إخراجه بالقوة إلى الفعل.

ثم سأل : لماذا يطلق على النطفة الملقاة في الرحم نفسها جنينا؟

٣٤٨

فأجاب حضرة الشيخ : بأن من أسمائه حينئذ الأحد الجامع ، والظاهر ، والخالق ، والباري وغيرها مما يناسب لتعينها ، ونعني بالنطفة ما فيها من المادة الإنسانية قدر خردلة ؛ فإن تلك الحبة هي التي يحصل منها العلوق ، ولو لا ذلك في أجزاء النطفة ما تكون الولد ، وكذا عجب الذنب ، وهو جزء من الأجزاء الإنسانية قدر خردلة بل أصغر لا يبلى ولا يفنى ، وإن فنى سائر الأجزاء ، ومنه يبدأ التركيب في النشأة الآخرة ؛ فسبحان القادر القوي أنشأ الإنسان في النشأتين من جزء لا يتجزأ إشارة إلى أحديته ، وتطبيقا للآخر بالأول.

وإلى هذه الحبة إشارة في قوله تعالى : «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف» (١) فإن لفظ «حببت» مشتمل على الحبة ، ونفي بالحبة ذلك الجزء قدر أصغر خردلة.

قال حضرة الشيخ : المعرفة والمحبة يتفاضل أحدهما على الآخر بالاعتبار ، فبينهما فرق ، وذلك أن المعرفة بحسب التنزل الرحماني كما يشير إليه قوله : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف» (٢) «قوله» تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] «لي» تفسيره ب «يعرفون» ؛ فكونه تعالى معروفا باعثا للمحبة ، وعلة غائبة للخلق ، والمحبة باعتبار الترقي الإنساني ، وكون المرء عبدا حقّا ، ولذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبيب الله فلا رتبة فوق كون العبد محبوبا لأن المحبة باعتبار الفناء ، والمحبوب باعتبار البقاء ، وللبقاء فضيلة عظمى.

قال حضرة الشيخ : الفرق والجمع على مراتب ، فأهل الغفلة والحجاب في الفرق الأول ، وهو شهود الخلق بلا حق بعد الجمع والفناء الأول ، وهو شهود الحق بلا حق ، ثم بعده الفرق الثاني والبقاء الأول ثم بعده جمع الجمع والفناء ، والبقاء الثاني وهو شهود الخلق في الخلق ، وشهود الخلق في الحق من غير احتجاب بأكثر عن الوحدة وبالعكس ، وعنده يظهر سر قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] وهذه ـ أي : مرتبة جمع الجمع ـ مرتبة جمع الذات والصفات ، والأفعال بالفعل ، والتحقق بأسرارها.

قال حضرة الشيخ : إن إسرافيل مظهر الحياة ، وجبرائيل مظهر العلم ، وميكائيل مظهر الإرادة ، وعزرائيل مظهر القدرة ، وكذا الحرارة والرطوبة والبرودة

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ١٧٣) ، والمناوي في «التعاريف» (١ / ٥٦٨).

(٢) سبق تخريجه.

٣٤٩

واليبوسة على الترتيب والحياة بمنزلة الذات بالنسبة إلى سائر الصفات ؛ لأنه لا واسطة بينها وبين الذات ، والباقي تابع لها.

واعلم أن أكثر الأسماء إضافية ، فالأول باعتبار الآخر ، وبالعكس ، وعلى المظاهر باعتبار الباطن وبالعكس ، والمنتقم باعتبار العفو والغفور وبالعكس ، وعلى هذا ، وفي الحقيقة لا اسم ولا رسم ولا نعت ، ومن هنا يقال : البحت والمجهول المطلق ، وغير ذلك.

فإذا حصل للسالك الكمال التام ، ووصل إلى مرتبة المخلصية بالفتح تجرد عن جميع الألبسة المعادية ، وتعرى عن جميع الأسماء ، ولكن المجازية فذاته إذ غنية عن العالمين لأنه عبد من كان غنيا عن العالمين ، ومن كان عبد الغني فلا جرم يكسب من غناه غنى يستغنى به عما سواه ، وإذا ارتفع الكثرات اتحد الحضرات ، وإذا اتحد الحضرات ارتفع الظهور والخفاء فكان في عماء ما فوقه هواء ولا تحته هواء ، وصلنا الله وإياكم من العلم والغنى ، وجعلنا وإياكم مجمع البحرين ، وكشف عنا وعنكم غطاء الوجود ، وحققنا وإياكم بحقيقة الشهود ، فإنه مفيض الخير والجود.

وقال حضرة الشيخ في قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] : إن كل ما دخل تحت الوجود من الجماد والنبات والحيوان والملك والجن والإنس وغيرها فهو مرسل من الله تعالى ، أرسله بالفيض الأقدس الأقدم أي : عالم المعاني ثم بالفيض المقدس المقدم إلى عالم الأرواح والمثال والأجسام ، فأهل التوحيد والشهود لا يفرقون في الحقيقة بين أحد من هذه الرسل ؛ لأنها آثار ، والآثار تستند إلى الأفعال ، وهى إلى الصفات ، وهى إلى الذات المرشد ، فلم يبق إلا الهوية السارية في جميع الموجودات سريان المطلق في المقيد ، لا على جهة الحلول والاتحاد ، فلا موجود إلا هو.

قال حضرة الشيخ : في قول الهدائي ـ قدس‌سره ـ في بعض إلهياته التركية : «ايتمزسنك عاشقلرك ملك سليمانه تظروا» (١) : إنما لا يتعلق نظر العاشق الصادق إلى ملك سليمان لأنه لا يليق بشأنه أن يؤثر المفضول على الفاضل ، والسوى على المولى ؛ فإن آثر فقد زاغ بصره وطغى ، فلم يتحقق بالمعراج الحقيقي الأعلى في مقام : (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩].

__________________

(١) كلام تركي.

٣٥٠

أقول : وداود عليه‌السلام لم ينظر إلى ملك سليمان ، ولذا رجح التسبيحة على ملكه العظيم ، فهو في ملكه في عين التجرد ، وأما التلبس بحسب الظاهر ، فقد كان بإرادة الله تعالى ، ومن دخل في أمر الحق فهو بالحق دائما فلا يشغله شأن عن شأن.

وأما صاحب المحمدية : [دانه كيم يدى كركوهرا ولسه ياتميم ، ايتميم هركز نظر كوررايسم زرين جبال](١) فلا يقدح في شأن آدم عليه‌السلام كما يزعمه بعض العامة.

والمقصود من هذا الكلام بيان همته العالية ، وكذا قول الحافظ : «يدرم روضة جثت بدو كندم بفروحت ناحلف باشم لكز من بجوى نغروشم» (٢) ، فإنه يشير إلى أن المطلب الأعلى هو الوصول إلى الله تعالى ، فمن كان مطمح نظره ذلك فهو لا يلتفت إلى الجنة ونعميمها ، فضلا عن الدنيا ونسيمها ؛ فإن ما سوى الله لا قدر له عند الله إلا قدر ما أذن الله ، فافهم. ومنه يعرف معنى قول الشيخ الشهير ب «يونس أمره» : [جنت جنت ديدكلرى برقاج اوله ، برماج حورى اسنينه وبرسون إلى بكاسنى كرك سنى](٣). فإن مراده تعظيم المولى الذي أنشأ ما شاء ، لا تحقير الجنة ، فمن قنع بالدنيا خسرت تجارته ، ومن قنع بالآخرة ربحت صفقته ، ومن قنع بالله عظمت بضاعته ، واتسعت دولته ، واستغنى غناء يستصغر عنده الدهر وقيمته ، وإياك والطعن في أولياء الله ؛ فإن تحت عباراتهم معاني مقصودة ، وإن كان تنبئ بعض العبارات على غير ما ينبغي بالاعتبار الظاهر.

قال حضرة الشيخ : كان السلف يعدون سوء أخلاق نسائهم من سوء أخلاق أنفسهم ، وذلك لأن المرأة إشارة إلى الطبيعة ، والنفس والرجل إلى القلب والروح ، والقلب قطع الوجود الإنساني ، فمتى صلح ، صلح الجسد بجميع قواه ، ومتى فسد فسد الجسد كله بجميع قواه أيضا ، فسوء الأدب من طرف المرأة إشارة إلى بقية الوجود في طرف الرجل ، فيحتاج إلى المجاهدة القوية إلى أن تحصل التزكية المعنوية والموافقة الأنفسية والآفاقية ، ألا ترى أن النبي عليه‌السلام لما قوي توجهه بروحه إلى التسبيح والتحميد ، سرى ذلك إلى أعضائه وقواه في الخارج ، فلا جرم كانت تسبح تسبيحه عليه‌السلام.

__________________

(١) كلام تركي.

(٢) كلام تركي.

(٣) كلام تركي.

٣٥١

قال حضرة الشيخ الأكبر ـ قدس الله سره الأطهر : قد يظهر من الخليفة الأخذ لحكم من الله ما يخالف حديثا ما في الحكم فيخيل أنه من الاجتهاد وليس كذلك ، وإنما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي ، ولو ثبت الحكم به ، وإن كان طريق الإسناد العدل بمقصوم الوهم مبدأ السهو والنسيان ، ولا من النقل على المعنى الذي هو مبدأ التأويلات والتحريفات ، فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، انتهى كلامه.

قال حضرة الشيخ في هذا المقام من كلام الفصوص : إن المريد الحقيقي لا يتخلص عن حقيقة الاعتراض إلا بعد إيمانه الكامل بأن مرشده هذه الخلافة والكشف ؛ فانه يجوز أن يكون المرشد ممن له حظ أوفى من هذا المقام ، فما يأتي ويذر إلا بما أعطاه الكشف الصحيح.

أقول : ذكر أن حضرة الشيخ المدعو ب «وفا القسطنطينة» ـ قدس‌سره ـ كان يصلي الظهر في آخر وقتها ، وكان يجهر بالبسملة في الجهرية مع كونه حنفي المذهب لكن شأنه العالي يأبى أن يخالف الظواهر ، فإنما فعل ما فعل بحسب الكشف الإلهي لا من عند نفسه ، وكان فوق الكل في زمانه ، فالطعن لمثله لا يثمر إلا التعب في الدنيا ، والتنزيل في العقبى ، عفا الله المولى.

قال حضرة الشيخ : الكلام مقلوب الكمال فآخر الكمال الكلام ، كما أن أول الكلام الكمال ؛ لأن أول التعينات الإلهية هو الهوية الذاتية ، وآخرها الكلام ، ولذا يقال الحياة ، والعلم ، والإرادة ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والكلام على الترتيب إلا أن أول ما يبدو في الجنين حسن السمع ، ولذا منع في الشرع من وطئ الحامل المطلقة أو المتوفى عنها زوجها إلى أن تلد ؛ لأن بالوطئ يزداد حس الجنين ، فيكون كالسقي لحرث الغير ، ثم بعد أن ولد يظهر حس البصر والكلام فآخر ما يظهر بعد الولادة هو البيان [...](١) يجرى في عالم الغيب ، ومن فقد حسّا فقد علما ، ومن فقد علما فقد عيانا ، ومن لا عيان له لا حضور له ، ومن لا حضور له لا حلاوة لطاعته.

قال حضرة الشيخ : النور والنار حقيقة واحدة إلا أن النور إذا اشتد ظهوره يسمى نارا ، فالنار مؤنث ، والنور مذكر ، وكما أن في آدم وحواء ـ عليهما‌السلام ـ سر البطون والظهور ، وإن اختلف التشخص ، فكذا في النور والنار ، وإن تنوعت

__________________

(١) بياض بالأصل.

٣٥٢

الصور ، يعني أن حواء بطنت في آدم ثم ظهرت بزيادة صفة ، والنار بطنت في النور ثم ظهرت كذلك ، واختلاف صورتها لا يقدح في كون أحدهما عين الآخر في الحقيقة ، وهنا سر عظيم في حق أهل النار ينفهم من قوله : «سبقت رحمتي غضبي» (١) ففي النار والغضب بطن النور والرحمة ؛ لأنه في الفرع ما في الأصل ، فافهم.

قال حضرة الشيخ : إن سهل بن عبد الله التستري ـ قدس‌سره ـ تمّ له أمر السلوك في صباوته لكمال لطافة حجابه ، فلم يحتج إلى مدة طويلة بمجاهدة ورياضة عريضة ، فإنه يختلف السلاك في الوصول إلى الله سرعة وبطئا بحسب لطافة الحجاب وكثافته ، فروح الكامل سريعة التعلق ببدنه في التنزيل الرحماني ، فلا يمكث في العوالم مكث أرواح الناقصين ثم إذا تعلق ببدنه لا يسرع له الانتقال إلى المقصود من غير تعب ، كما قال حضرة الشيخ الأكبر ـ قدس‌سره ـ : المجذوب من اختار الله له في الأزل البلوغ إليه بلا كسب ولا تعمل فوقع مفطور مع الفطر إليه بلا اجتهاد بدفع غيره عن مقتضى قصده ، والمجذوب بعد السلوك هو من شغلته الأغيار عن الله زمانا فلم يزل في علاج وجودها بتوفيق الله حتى أفناها ، ولم يبق له سواه سبحانه ، انتهى الكلام الأكبري في كتاب «تلقيح الأذهان».

قال حضرة الشيخ : الجلال عند الصوفية ما جاء من حيث لا يحتسب ، بحيث لم يكن في حصوله حركة لا صوريه ولا فكرية ، ولا يشترط فيه أن يكون من صالح أو غيره ، وإليه الإشارة بقول حضرة الهدائي : [كله بريسنه كيم من غير طلب انى حقدن بيلور ارباب ادب](٢).

قال حضرة الشيخ في قول الهدائي في بعض إلهياته التركية : [كجوب فرما نيله بونجه عوالم كنوركن عالم انسانه كلدك](٣) : إن الإنسان يعبر إلى المنازل حين نزوله إلى هذا العالم ، ويتعين بتعينها ، ولا يقدح هذا التعين في حقيقته ، ومثاله الأصلي ، وآخر ما يصير إليه بعد عبوره من المولدات النطفية ، والمتعين بتعينها ، ثم يسوية الله بتركيب خاص في رحم الأم.

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) كلام تركي.

(٣) كلام تركي.

٣٥٣

قال حضرة الشيخ الأكبر ـ قدس‌سره الأطهر : قرأ بعض أصحابه «إحياء العلوم» في مكة المكرمة ، وأنه خطّأ الإمام الغزالي في موضع من الإحياء مما يتعلق بالاعتقاديات ، لكن يدل هذا التدريس والقرآن على عظم شأن ذلك الكتاب ومؤلفه ، ولا يقدح فيه القدح المذكور بناء على تفاوت مقامات العارفين ، وقد شهد له في بعض كتبه بأنه من رؤساء هذه الطريقة.

قال حضرة الشيخ : الاسم الثاني مجازي من حيث كونه ملفوظا ومكتوبا ، وحقيقة الأطعمة والأشربة والمعاجين المتخذة للمريض من العقاقير المختلفة ، كما أن قطب الوجود نفسه هو الاسم الأعظم في الحقيقة ؛ فإن الاسم في الحقيقة هو التعين ، والله تعالى مبجل في كل تعين بما يناسبه من الأسماء والصفات.

أقول : من أعجب ما قيل في هذا الباب قول «يونس أمره» الذي شهد له الرجال بالكمال في بعض كلماته التركية : [بتوردم يوسفي كنعان ايلنده بولندى يوسفم كنعان بولنمز](١).

فإنه يريد بهذا الكلام أنه قبل أن ينكشف عنه الغطاء كان محجوبا عن إدراك جمال يوسف الحقيقي في أرض كنعان الكثرة ، فلما ارتد بصيرا بإلقاء قميص تجلى أنوار الجمال على وجه يوسف ، ورأي جماله المنير ، وغابت عنه كنعان يعني لم ير بعد هذا التجلي في المظاهر إلّا الهوية السارية في جميع الموجودات ، ففقد ما وجده ، ووجد ما فقده ، بل كان المفقود عين الموجود ، عين المفقود ، وما ثم إلا كشف الغطاء ، وإزالة الحجاب.

أقول : ضرب لهذا مثل ، وهو أن الحيتان قال بعضها لبعض : سمعنا أن في المحل الفلاني حوتا رأى الماء ، فاجتمعت عنده ، وسألت عنه : إنه قيل في حقك أنك رأيت الماء؟ فقال : أروني أن في هذا المحل غير الماء حتى أريكم ، فافهم الإشارة ؛ فإنه ليس وراء عبادان قرية.

واشتكيت إلى حضرة الشيخ يوما عن كثافة الحجاب فقال ـ من وجه العتاب : هذا ليس من كلام أهل الطريقة ، وإنما اللائق بك أن تنظر إلى قوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [الأعراف : ٢٩] فتعبده وأنت عبد حق لا أن تعبده لإزالة الحجاب ، وظهور الحرارة للقلب ، وحصول الكشف والعلوم والأذواق ؛ فإن دنيا أهل

__________________

(١) كلام تركي.

٣٥٤

الطريقة العلم الظاهر من القوانين والرسوم ، وآخرتهم العلم الباطن من الأذواق والكشف والتقيد بكليهما.

حجاب الأول : حجاب ظلماني.

وحجاب الثانى : حجاب نوراني ، وأهل كل منهما محجوبون عن الحق ، فإن الدنيا والآخرة حرامان على أهل الله ، وإنما المنع والعطاء بيد الله ، وينبغي لعبد الحق أن يكون المنع والعطاء سواء عنده ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣] فإن جذب المحبوب ، ودفع المكروه من الشهوات عند أهل الله ، فاترك التصرف بتصرف الحق فيك بما أراد ، اللهم اجعلنا عبيدا مطلقين ، وبحقيقة العبودية متحققين.

قال حضرة الشيخ ـ بطريقة التوجه : عليك بالصوم كل يوم ؛ فإنه طريقة أهل الحق ، وحافظ على أوقاتك لا سيما الغدو والرواح فلا تغفل عن التوجه إلالهي عند الصباح إلى وقت الضحى ، ومن العصر إلى وقت المغرب بمقتضى ظاهر قوله تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الإنسان : ٢٥].

فإذا جاء زمان الإفطار افطر بما تيسر لك من الحلال الطيب ، ثم صلّ المغرب صلاة الأوابين ، ثم لا تشتغل بعدها إلّا بالذكر والفكر بالقلب الهيولاني الوجداني ، وأخّر الأكل إلى أن يقوم أهل الغفلة عن مائدتهم ، وعنده كل قدر ما يعتدل به مزاجك ، ويسكن قلبك ، ويقوى بدنك عن الطاعة إلى المساء الآتي ، وما بين العشائين وقت شريف وزمان فتح وفيض ينبغي أن يصرف إلى المعاد لا إلى المعاش ، وأن مخالفة الجمهور في وقت الطعام فهي مفيدة لنا إذ لا بدّ من مخالفتهم في عاداتهم وأحوالهم ؛ فإن طريقنا طريق الأصحاب رضي الله عنهم لا طريق أهل العرف.

قال حضرة الشيخ : إني إذا وصلت إلى مدينة «بروسة» فالزم مكانك ثلاث سنين وأخّر الزيارة إلى تمام هذه المدة ؛ فإن في التثليث سر الفردية ومن ثبت نبت.

أقول : كان يوصى بهذا جميع الخلفاء رعاية لهذا السر ، وربما نسخ هذا بحسب المصلحة كما سيجيء ، ووصّى أن يكون وردي كل يوم جزءا كاملا من القرآن على ما هو عادته الشريفة ، وهذا ما عدا الأوراد التي عينها لي حين المبايعة ، وسمعت منه قبل وفاته بشهور أنه قال : لم أترك إلى الآن الورد الذي ألزمنيه شيخي ، وأنا الآن كما كنت في خدمته قبل ولا أعرف لنفسي رتبة وفضلا ، وإن طال الأمد وكان ما

٣٥٥

كان.

أقول : انظر إلى هذا الكامل كيف نظر إلى نفسه بالنظر الأول ، وكيف حافظ على العهد المأخوذ إلى آخر العمر ، فإن الطريق طريق النفس ، وملازمة العلم والعمل واتباع الشيوخ وفي مدة العمر.

وفي الحديث : «أفضل الأعمال أدومها وإن قل» (١).

قال حضرة الشيخ : إذا تمّ الحركات يحصل السكون ، وعنده يعد السالك كاملا ؛ لأن أول الأمر كان سكونا محضا ، وإلى أوله يرجع آخره قال تعالى في الحديث القدسي : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف ؛ فخلقت الخلق» (٢) فالخلق إنما يكون بحركة معنوية ، فمنه يعتبر الحركة ، وأما ما قيل لم يصل إلى سرّ المبدأ.

واعلم أن عبارة السكون والحركة إنما هي للتفهيم وإلا فليس هناك شيء منها.

__________________

(١) رواه البخاري (٥٩٨٣) ، ومسلم (١٣٠٥).

(٢) سبق نخريجه.

٣٥٦

الزيارة الثانية

هذه الزيارة وكذا ما بعدها وقعت بعد استيطاني في بلدة «بروسة» ؛ فإن حضرة الشيخ استخلفني منها ، وحدد الزيارة ثلاث سنين ، ثم لما مضى سنة ونصف نسخ ذلك وأشار إليّ بالقدوم ، فسرت إلى جانب القسطنطينة فلما وصلت إليها لم أجده ـ قدس‌سره ـ في داره ، وصادفته في ساحل القلعة المعروفة ب «حصار روم إيلي» وهو يتهيأ لدخول السفينة لحضور دعوة في بعض السواحل ؛ فلما رآني تبسم واستبشر ورحب ودعا لي بالخير هنا ؛ فقبّلت يده الشريفة ، ودخلت معه في السفينة ، ثم سرنا إلى المقام المعروف ب «يوشع» والحديقة المعروفة ب «توقات» وسأل عن أحوالي وأحوال أهالي بروسة ؛ فشكرت الله في ذلك ، فقال : لا تكن زمانيا ولا مكانيا ثم تلا قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] ، وسأل عن كيفية الوعظ ، فقلت : تبعثني نفسي في بعض الأحيان على مقابلة بعض الوعاظ في مقالاتهم الفاسدة ، قال : لا تفعل ؛ فإن الله هو الذي يتولى الرفع ، فادفع العمل باختيارك ، وفوض أمرك إلى الله تعالى ، ولا يصح إليهم ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١١٢] ، فإذا جاء الوقت يرتفع الكدر بالكلية بأمر الله ، دخلت مع حضرة الشيخ والمخاديم الكرام ، وبعض الخواص في السفينة بعد العصر لزيارة بعض المقامات الساحلية فلمّا غربت الشمس ، قال : هذا الوقت إشارة إلى التنزل من المطمئنة إلى مرتبة الملهمة ، وما بين العشائين إشارة إلى التنزل إلى مرتبة اللوامة ، ثم ما بعده إشارة إلى التنزل إلى مرتبة الأمارة ، ووقت الشافعي إشارة إلى الترقي من الأمارة إلى اللوامة ، ووقت الحنفي إشارة إلى الترقي إلى الملهمة ، ووقت الطلوع إشارة إلى الترقي إلى المطمئنة بحسب مراتبها إلى أول الغروب ، ثم يعود الأمر على ما كان عليه ، قال : آخر الليل إشارة إلى السكون الذاتي ، والنهار إلى الحركة الصفاتية ؛ فعند الليل يحصل التنزل الجمال الذاتي ، وعند النهار يحصل الترقي الصفاتي ؛ لأن كل شيء يترقى من السكون إلى الحركة.

قال حضرة الشيخ : اعلم أن الخلق في إثبات ما سوى الله ونفيه على أربعة

٣٥٧

أقسام : قسم يثبتونه مطلقا اعتبارا وحقيقة على أنه غير الحق مطلقا أي : على أنه ليس الموجود أصلا لا حقيقة ولا اعتبارا ، وهم العارفون المكاشفون ، وقسم ينفونه حقيقة ، ويثبتونه اعتبارا على أنه أصل الحق سبحانه ، وهم المشاهدون والمعاينون ، وقسم ينفونه حقيقة ، ويثبتونه اعتبارا أيضا لكن على أنه عين الحق سبحانه ، وهم المحققون الواجدون ، وهذا من مزالق الأقدام قبل التحقق بحقيقة هذا المقام هدانا الله وإياكم إلى قوم سبيل السّلام ، وبيده أزمة الأمور والأحكام.

قال الشيخ : كن هيولانيّا ووحدانيّا ثم انتظر الفيض الإلهي ، ولا تنظر إلى شيء أصلا حتى مقامات الأنبياء والأولياء ؛ فإنها تجليات بحقيقة ، بل توجه إلى عالم الإطلاق ، وصف باطنك عن علاقات الأنفس والآفاق ؛ ليحصل تجلي الجزيل بحسب استعدادك ، وأفض من الظاهر قدر مبلغ علمك كالبحر المالح ، وأفض من الباطن حسبما يساعده عرفانك كالبحر العذب ، ولكن كن غنيا عن الجملة غير الله تعالى ألا ترى أن الله تعالى أفاض على كلّ شيء من الأشياء الموجودات ما هو مستعد له بحسب مرتبة مع أنه غني مطلق.

قال حضرة الشيخ : المرشد الكامل كتاب ناطق فما دام أمكن الوصول إليه وإلى صحبته ينبغي أن يكتفي بالكتاب الساكت ؛ فإن تأثير الناطق أبلغ ، وشكوت عن سوء الحال ، فقال : لا تقل فإني تفكرت مرة في أحوال الكمّل فهان عليّ نفسي ، واستولى عليّ الخوف العظيم ، واستمر مقدار شهرين ، وقيل لي وأنا في سنة الجمعة :

لا تخف ؛ فإن الله تعالى لو لم يرد بك الخير لما وفقك لرؤية جمال وليه ، وقد كنت خادم نعله زمانا ، وصحبت به أعواما ، واعتقدته اعتقادا تاما فذلك من العناية الأزلية في حقك يا حقي ، فزال عني ما بي من الخوف الغالب ، واعتدل حالي ، والحمد لله تعالى ، وأراد بالولي من هو مستغن عن التعريف ـ أعني : حضرة الشيخ قدس‌سره.

قال حضرة الشيخ : هذا الزمان زمان سكوت ؛ فإنه قلمّا يوجد من يصلح للمكالمة من الفناء والصرف ، ونظر إلى الأشجار في حول البحر ؛ فقال : إن هذه الأشياء على ما كانت عليه في القدرة العلمية لا يجوز أن يكون على خلاف ما هي

٣٥٨

عليه فيها ، لكن كان ظاهر الحق باطنا في الحضرة العينية ، وباطنه ظاهرا فظاهر الخلق باطن الحق ، وباطن الخلق ظاهر الحق ، ثم قال : انظر إلى هذه الأشجار ؛ فإنها ثابتة في مكانها منذ ما خلقت ، وهي على هذه الحالة إلى وقت فنائها ، فلا بدّ من ترك الحركة الإرادية في طريق الحق ، ذكر حضرة الشيخ مراتب النفوس ومثّل لها بالأوقات المخصوصة من الليل والنهار ثم تلا قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩١] ، فقال : المراد بالذكر القيامي توحيد الأفعال ، وبالقعودي توحيد الصفات ، وبالجنوبي توحيد الذات وتحقيقه أن القيام المستلزم الحركة إشارة إلى ما أشار إليه النهار ، والقعود والاضطجاع المستلزمين للسكوت إشارة إلى ما أشار إليه الليل وقد سبق.

وسرنا إلى حصار روم أيلّى في القسطنطينة ، فأمرني حضرة الشيخ بالوعظ والتذكير في جامع في السواحل فامتثلت ، ثم لما تمّ المجلس وكان حاضرا فقبّلت يده الشريفة فدعا لي بالخير ثم دخلنا السفينة ، فجاء وقت المغرب فخرجنا إلى بعض السواحل فأشار إلي الإمام ، ولما فرغنا من الصلاة أخذ يتكلم من المعارف ، وأنجز الكلام إلى ذكر السلطان ، واختلال الزمان بالظلم والعدوان والفساد والطغيان ، وقرب زمان المهدي ، وانقراض السلاطين العثمانية ، فصلينا في جامع الحصار الذي بناه السلطان محمد الفاتح على شكل اسمه محمد ، وأمر حضرة الشيخ خليفة الشيخ حسين أن يعظ الناس في ذلك الجامع ففعل فلمّا جئنا إلى المنزل أحضر الشيخ جملة الإخوان ، وقرأ عليهم رسالتي التي ألفتها في حق حضرة مخدومه السيد محمد الجودي ـ أبقاه الله تعالى ـ فسرّ واستبشر ، ودعا لجملة الإخوان بالخير والسعادة ، ثم قال مخاطبا الخليفة المذكور : أنتما كعيني هاتين ، وأشار بيده إلى عينيه المباركتين ، ثم أمرني بقراءة القرآن ثم بقراءة بعض الإلهيات الهدائي ، ثم بالتلاوة ثانيا ففعلنا فلمّا جاء وقت الدعاء توقفت فيه ، وعرضت ذلك على جنابه حتى يكون هو الداعي والباقي هو المؤمن ، فقال : لا تفعل. فإني استخلفتك ، ومن مواضع الخلافة مثل هذا الدعاء ؛

٣٥٩

فقبلت ، وكان له في ذلك اليوم زيادة انبساط ، فكان يوم عيد لنا أعطاني حضرة الشيخ ريحانة ، وقال : فكن روحا وريحانا إلى أن قال : تكن بالله إنسانا ، ورمى حضرة الشيخ إلى بعض الوادي حصاة ، وذلك بعد الإياب من بعد السير ، فرميت أيضا حصاة تحقيقا للمتابعة والاقتداء جعلني الله تعالى وإياكم من السابقين في عبادة الاتباع ، وساقني وإياكم إلى منازل الاتفاق والاجتماع.

واعلم أني لم أكتب في هذه الزيارة إلا قدرا يسيرا لقصر المدة ؛ فإن حضرة الشيخ إنما استدعاني للملاقاة المحضة ثم أشار بالعود بعد ثلاثة أيام مع أن الكلمات ما هو مطوي عن البين لله الحمد [كده جان من معتكف حضرة ...](١).

__________________

(١) كلام تركي.

٣٦٠