مرآة الحقائق - ج ٢

إسماعيل حقّي البرسوي

مرآة الحقائق - ج ٢

المؤلف:

إسماعيل حقّي البرسوي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-344-218-7

الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

يعوقني عن المعارج العلى ، وإني أدخل كل ليل في الملكوت ، وأسير في العرش ، وإلى كلمات جليلة أسمعها في ذلك السير ، فسألته عن بعض أحواله ، وعن صيامه وقيامه ، كيف كان هو؟ فأقرّ بأنه كان يترك الفرائض لا سيما الصلاة ، ولا يشتغل بها بناء على أن الاشتغال بها من القيود الكونية ، ولا حاجة لها للأرواح العلوية.

فعرفت من ذلك أنه نفساني شيطاني وأن سيره إنما هو في ظاهره الكمون من طريق السير الخيالي.

وخطر ببالي ما قاله حضرة الشيخ محيي الدين العربي قدس‌سره في الفتوحات المكية من أنه أكثر أولياء بغداد ماتوا على المكر والاستدراك ، وذلك أنهم كانوا يتوارد عليهم الفيض الإلهي مع إصرارهم على الإخلال ببعض الشرائع ، فكانوا يظنون أن ذلك لا يضرّهم ، وما عرفوا أن ذلك من قبيل المكر الإلهي ، والاستدراك القهاري ، نعوذ بالله من ذلك.

ونعم قول من قال : المجاهدات تورّث المشاهدات ، فكل فرض وواجب وسنة من الفرائض والواجبات والسنن ، فهو داخل في المجاهدات.

ولا شك أن الاشتغال به مما يورث المشاهدات الصحيحة القلبية الروحانية التي عليها أهل الله تعالى من أهل الكشف.

وارد في السفر

خرجنا من بلدة بروسة بطريق الهجرة إلى الشام يوم الإثنين الخامس والعشرين من شهر رجب الأصم من سنة تسع وعشرين ومائة وألف ، ودخلنا الشام يوم الأحد الخامس عشر من شهر رمضان ، فرجع العود إلى البدء ، كما قيل : إن النهاية هي الرجوع إلى البداية ، وذلك أن يوم الأحد الذي هو نهاية السفر متصل بيوم الإثنين الذي هو بدايته ، والخمسة المفهومة من الخامس ، والخميس التي هي مدة السفر إشارة إلى الحضرات الخمس التي لا يتم سير الموجودات الخارجية إلا بالوصول إلى نهايتها طورا بعد طور.

وقد كان مدة مكثي في القسطنطينية في سفر الحج خمسين ، وكذا مدة الوصول إلى مصر ، وكذا وقع لي في السفر الأول للحج في الألفات الأربعة أنه ظهر

٣٠١

لي ، وأنا واقف في عرفات شكلان.

فقلت : ما هذا؟ فقيل : إنه خمسون ، فقد غفر الله لك ما تقدّم منك منذ خمسين سنة ، وقد كنت إذ ذاك ابن خمسين ، ووقع الهجرة إلى الشام بالإذن السماوي العيني ، وأنا ابن سبع وستين ، فلله الحمد على سير الحضرات صورة ومعنى ، والوصول إلى المقامات العالية ظاهرا وباطنا.

وكان قائدي وسائقي في هذا السفر الشامي : حضرة الشيخ الأكبر ، والمسك الأزفر ، والكبريت الأحمر قدس‌سره الأظهر ، ولمّا زرت قبره المنيف ، قلت : يا حق ، فقيل لي : أنت الحق ، وسرّ سرّي ، والحمد لله على أن جعلني من أولاده المعنوية ، وساقني إلى جواره في الأرض المقدّسة الشامية.

وحين زرت قبر حضرة الشيخ صدر الدين ـ قدس‌سره ـ في بلدة قونية ، وهو ربيب حضرة الشيخ محيي الدين ، ووارث علومه ، وناقله في كلماته ، ظهر لي في لوح قبره نقش : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ، ٢] ؛ إشارة إلى سرّ الأحدية في الفناء الذاتي ، وسرّ الواحدية في البقاء الصفاتي وهو الذي يليق بمقام الكمّل ؛ لأنهم أهل التبليغ والإرشاد ، ولن يقوم ذلك لهم إلا بما ذكر من الفناء والبقاء ؛ وهو الإرشاد من الحق إلى الحق ، ومن اسم إلى اسم ، كما يقتضيه السفر المعنوي ، وإلا فالمبدأ والمنتهى واحد.

ولذا قيل : لا موجود إلا الله ، وليس في الدار سوى الله ؛ وهي إشارة إلى وحدة الوجود ، وقلّ من نال إلى معرفتها وذوقها وشهودها ، حتى طعنوا في القائل بها ، ونسبوه إلى مذهب الوجودية.

وفرق بين الوجود بشرط لا شيء ، والوجود لا بشرط شيء فهو الله تعالى مطلق بالإطلاق الذاتي الحقيقي الذي ليس في مقابلة شيء من التقييدات لا بالإطلاق العارضي إلا أنها في الذي في مقابلة التقييد ، فإنه جاءت اعتبارية تنزّهه تعالى عن مثل ذلك الإطلاق ، وجلة الوجود وجود ظلّي ناظر إلى الوجود الحقيقي ؛ كوجود الأنوار النّيرة المستفادة من نور الشمس ، فإنه ناظر إليه ، ومنعكس منه ؛ ولذا قيل : لم ينقل الأحيان الثابتة ، والوجود الحقيقي على حاله الآن ، فسبحان من ظاهر وباطن ، لم يره أحد بهذه العيون ؛ وإنما رآه البصائر من مرائي شواهده.

٣٠٢

وارد في الاسم المطلق

أيها الاسم المطلق سجد وجهي لوجهك الحق ، لقوله عن سلطانه :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر : ١٥].

وهو السرّ في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اغنني بالافتقار إليك» (١) : أي إلى ذاتك من جميع وجوه الأسماء الإلهية خصوصا من وجه الاسم الأعظم ، ثم إني رأيت حضرة الوزير أيّده الله القدير في مشهد لي لا أشكّ فيه ؛ كأنه يسألني عن الفرق بين هو وأنت.

فقلت : أمّا هو فأشار إلى غيب الهويّة نحو لا إله إلا هو ، وأمّا أنت فرمز إلى شهادة الصفات نحو لا إله إلا أنت ، فصاحب القوس أو أدنى يشهده في الحضرتين بلا فرق.

كما ورد : «وأسألك لذّة النظر إلى وجهك الكريم أبدا دائما سرمدا» (٢) ؛ وهذا مقام الخلافة المثلى ؛ كحال حضرة الوزير مع السلطان ، والرغبة ، وإليه التلويح بقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

فطوبى لمن اختار اليقظة الدائمة ؛ وهي التي لا مستقرّ للكمّل دونها ، هذا ما جرى بين حضرة الوزير على الله شأنه ، وبين الفقير حقي صانه الله عمّا شانه.

وارد

لمّا شارفت دخول الشام ، وأنا على الدابة ؛ رأيت أنه استقبلني أربعون رجلا على ألبتّة ؛ بيض في صورة الفقراء السالكين ، فقبّل كل واحد منهم يدي ، فعرفت ، والحمد لله المتعال.

وارد

من أحسن ما يحكى عن أبي الفرج ابن الجوزي أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فرضي الكل بما يجيب به الشيخ أبو الفرج ، فأقام شخصا يسأله ، وهو على الكرسي ، فلمّا سأله قال :

__________________

(١) ذكره أبو الطيب في عون المعبود (٤ / ٢٨٣).

(٢) تقدم تخريجه.

٣٠٣

أفضلهما من كانت ابنته تحته ، ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك ، فقال السنية : هو أبو بكر ، وقال الشيعية : هو علي ، وهذا من لطائف الأحمدية ، ولو حصل هذا بعد التأنّي ، وإمعان النظر ، كان في غاية الحسن فضلا عن البداهة من عيون الأبناء القضاء مجبر الدين أبي اليمن عبد الرحمن العمري الحنبلي.

وارد

دخول ـ طاغ تكوري ـ عشر من جمادى الآخرة يوم الإثنين ، والخروج من بروسة يوم الخميس الثامن من الشهر المذكور سنة ١١٢٩ ه‍.

لمّا طعن برهان الدين البقاعي في الشيخ عمر بن الفارض (١) نفاه السلطان إلى

__________________

(١) هو العارف بالله تعالى سلطان العاشقين سيدي عمر بن أبي علي بن مرشد بن علي ، الحموي الأصل ، المصري المولد والدار والوفاة ، ولد سنة ستّ وخمسين أو ستين وخمسمائة ، نشأ تحت كنف أبيه ، في عفاف وصيانة وعبادة وديانة ، بل زهد وقناعة وورع ، فلمّا شبّ وترعرع اشتغل بفقه الشافعية ، وأخذ الحديث عن الحافظ ابن عساكر وعن الحافظ المنذري وغيره ، ثم حبب إليه الخلاء ، وسلوك طريق القوم ، فتزهّد وتجرّد ، وصار يأوي إلى الجبل الثاني من المقطم ، والمساجد المهجورة مرة ، ثم يعود إلى والده ، فيقيم عنده مرة ، فيشتاق للتجرد فيعود إلى الجبل ، وهكذا حتى ألف الوحش وألفه الوحش ، فكان لا يفرّ منه ، ومع ذلك لم يفتح عليه بشيء ، حتى أخبره شيخه الشيخ أبو الحسن على البقال أنه إنما يفتح عليه في مكة شرّفها الله ، فخرج فورا في غير أشهر الحج ، ولم تزل الكعبة أمامه حتى دخلها ، وانقطع بواد بينه وبين مكة عشر ليال ، ففتح عليه فصار يذهب من ذلك الوادي إلى مكة ، فيصلّي بها الخمس ويعود إلى محله من يومه ، وأنشأ غالب نظمه حالتئذ ، وأقام على ذلك نحو خمسة عشر عاما ، ثم رجع إلى مصر ، فأقام بقاعة الخطابة بالجامع الأزهر ، وعكف عليه الأئمة ، وقصد من العام والخاصّ ، حتى أن الملك الكامل كان ينزل لزيارته ، وسأله أن يعمل له ضريحا عند قبره ، بالقبة التي بناها على ضريح الإمام الشافعي ، فأبى ، وكان رضي الله عنه جميلا نبيلا حسن الهيئة والملبس ، فصيح العبارة ، حسن الصحبة والعشرة ، وذكر أنه رأى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نومه ، فقال : (إلى من تنسب؟) فقال : يا رسول الله إلى بني سعد ، قبيلة حليمة. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (بل نسبك متصل بي). وكان له أحوال كريمة وكرامات عظيمة ، ومن أجلّها ديوانه الذي اعترف بحسنه الموافق والمخالف ، سيّما القصيدة التائية المسماة ب «نظم السلوك».

روى ابن بنته عنه : أنه لما أتمّها رأى النبيّ ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في المنام ، فقال : يا عمر ، ما سميت قصيدتك؟ قال : سميتها : «لوائح الجنان وروائح الجنان» ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ، بل سمها : «نظم

٣٠٤

__________________

ـ السلوك» وقد اعتنى بشرحها جمع من الأعيان : كالسراج الحنفي الهندي قاضي الحنفية بمصر ، وكان كثير المحبة للشيخ ، حتى أنه عزّر ابن أبي حجلة ؛ لتكلّمه في الشيخ بما لا يرضي الله ، والشمس البسطامي ، والجلال القزويني الشافعي ، غير متعقّبين ولا مبالين بكلام المنكرين الحسّاد.

وكذا شرحها الشيخ الفرغاني ، وهو الشارح الأول لها ، وأقدم المؤيدين له حكى : أن الشيخ صدر الدين القوني عرض لشيخه الشيخ محيي الدين بن العربي. فقال له : لهذه العروس بكر من أولادك ، فشرحها الشيخ الفرغاني ، وهو من تلامذة الشيخ القوني ، وكذلك شرحها الشيخ القاشاني والشيخ القيصري وغيرهم ، وعلى القصيدة الخمرية عدة شروح ، أحدها لابن كمال باشا ، وكذلك اليائية ، وقد شرحها الإمام السيوطي ، وقد شرح الديوان كله بعض العارفين : كالشيخ النابلسي رضي الله عنه.

قال الذهبي : كان سيّد شعراء زمانه. وقال ابن العماد في «شذراته» : أفضل الشعراء على الإطلاق ، ولم يزل الشيخ على حاله ، راقيا في سماء كماله رضي الله عنه حتى احتضر ، فسأل الله أن يحضره في ذلك الهول العظيم جماعة من الأولياء ، فحضره جماعة : منهم البرهان الجعبري ، فقال كما حكاه سبط الشيخ : رأيت الجنة لما مثلت له ، بكى وتغيّر لونه ، ثم قال :

إن كان منزلتي في الحب عندكم

ما رأيت فقد ضيّعت أيامي

قال : فقلت له : يا سيدي هذا مقام كريم. فقال : يا إبراهيم رابعة وهي امرأة تقول : (وعزّتك ما عبدتك رغبة في جنتك ، بل لمحبّتك) ، وليس هذا ما قطعت عمري في السلوك إليه ، فسمعت قائلا يقول له : ما تروم؟ قال : أروم وقد طال المدى منك نظرة ... البيت ، فتهلل وجهه ، وقضى نحبه ، فقلت : إنه أعطي مرامه انتهى.

وقد افترى على الشيخ رضي الله عنه من يدعى بالبقاعي ، الذى ظهر أنه يعمل بعمل أهل الجنة ، ولكن غلبت عليه شقوته ، وسبق عليه الكتاب ، فصار من أهل العذاب ، المنسوب إليه التفسير المشهور ، المسمّى بنظم الدرر ، والحق أنه ليس له ، كما هو معلوم عند أهل العلم ، فألف رسالة ، وإن شئت قلت ضلالة في تكفير الشيخ ، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ)[الصف : ٨] ، ولكن هيهات هيهات : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ،) فقيّد الله لهذا البقاعي الجاهل الشيخ العالم الكامل أبو عبد الله محمد بن جمعه الحصكفي رضي الله عنه ـ توفي سنة ٨٩٥ ه‍ ـ من جعله سيفا لدينه ، يذبّ عنه سفاهة ذوى الأحلام ، فألّف هذا الشيخ الجليل الصالح كتابا في الرد على ذاك الشقي أسمّاه «ترياق الأفاعي في الرد على الخارجي البقاعي» ، وهو كتاب حافل في الرد على ذاك الغافل ، و «الانتصار» للشيخ ابن الفارض منبع الفضائل ، وإن شاء الله سينشر هذا الكتاب قريبا ، وكذلك أيضا الشيخ السيوطي فألف مقامة أسماها «قمع المعارض في نصرة ابن الفارض» ، وقد دافع عن الشيخ وغيره من أكابر أئمة الأولياء الكثير من العلماء ، وقد وقفنا على الكثير من تلك الكتب ، والتي لا يزال أكثرها مخطوط ، والتي لو نشرت لما كان لهذا الجهل والتجرؤ على أولياء الله وجود

٣٠٥

__________________

ـ ولعلمنا حقيقة أن تلك العلوم والمعارف التي أظهرها القوم هي غاية هذا الدين الخاتم ، وأنها مقصود الشرع الشريف ، ولعلم من أنكرها أو من لم يعرفها أنه ما عرف عن الدين وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا اسمه ، لا غير.

وإن شاء الله سنقوم بتحقيقها وإخراجها للناس ، وذلك لما رأينا أن معظم كتابات اليوم عن علم التصوف الإسلامي خالية تماما مما استند إليه القوم من الدليل الشرعي ، فصار الكلام في الفلسفات والنظريات والنقل من المستشرقين وكأن الكاتب ليس مسلما ، ولم يقف على كتاب اسمه القرآن ، ولم يؤمن بنبيّ خاتم اسمه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنه يتكلم عن غير مسلم ـ معاذ الله ـ في موضوع لا يمسّ الدين ، فبالله عليك يا أخي هل ترى علوم التصوف إلا قسمين : قسما : أمرك باتّباع الشرع المطهّر من عبادة : كذكر أو صلاة على رسول الله أو قراءة قرآن أو حسن معاملة مع الخالق والخلق؟

وقال في ذلك الإمام الجنيد سيّد الطائفة قدس‌سره : علمنا هذا مشيّد بالكتاب والسنة.

وفي ذلك القسم ألفوا «الإحياء» ، و «قوت القلوب» ، و «الرسالة القشيرية».

والقسم الآخر : وهو أسرار الدين والعقيدة العظمى في الله وفي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو العلم المسمّى بعلم الحقائق : «كالفتوحات المكيّة» ، و «الإنسان الكامل» ، وتلك الكتب ما تكلّمت إلا بأنّها مستمدة من السيد الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم تلك العلوم وأعظم ،

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] ، وأقاموا الدليل الشرعي على ذلك ، وإن شئت فراجع «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر» ، وبالله عليك هل سمعت ولو ممن ينكر على السادات الصوفية أن واحدا منهم كان محبّا للدنيا أو طلب من آخر ترك أمر في الشريعة أو كان يجبر أحدا على تعظيمه؟! لا ، والله.

وانظر كل كتب التراجم ولو المنكرين عليهم كما ذكرت فإنك لن تجد مثل هذا ، ولن تسمع إلا أنه كان زاهدا عابدا ورعا ، لا يقيم لنفسه على أحد وزنا ، فأنصف الحق من نفسك ، واستبرئ لدينك.

وصار باحثينا القارئون لتلك الكتابات يتجرأون على الشريعة وعلمائها بدون أدنى تعب في البحث عن الأدلة الشرعية ، ولو وقف أحدهم على قوله : (إنّ الله عند لسان كلّ قائل وقلبه) لما تجرأ بالطعن على ما يجهل ، ولأفتاه قلبه : إياك والإنكار على ما تجهل ، فإنك لم تحط بعلم الله ، فلا تحكم على الله ، قال تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الحديد : ٢١] ، ولذكّره بقوله تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)[الكهف : ٦٥].

٣٠٦

دمشق ، وقال فيه بعض الفضلاء : مصران البقاعي بها ، قد قاله مطالب لا تحسبوه سالما ، فقلبه يعاقب.

وارد عن الشام

محلّ الكون : أي الوجود والكثرة بالفعل ؛ ولذا كانت السريّا شامية ؛ لكثرتها ، وشهيد يمنيا ؛ لوحدته ، كما أشار إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأجد نفس الرحمن من قبل

__________________

ـ وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)[البقرة : ٢٨٢] ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ)[ق : ٣٧]. والحاصل : كما ذكره الإمام عبد الرؤوف المناوي في «الكواكب الدّرية» : أن قد اختلف في شأن صاحب الترجمة ـ ويقصد الشيخ ابن الفارض وابن العربي والعفيف التلمساني والقونوي وابن هود وابن سبعين وتلميذه الششتري والصفار وابن المظفر رضي الله عنهم ـ من الكفر إلى القطبانية ، وقد كثرت التصانيف من الفريقين في هذه القضية ، ولا أقول كما قال بعض الأعلام : سلّم تسلم ، والسّلام ، بل أذهب إلى ما ذهب إليه بعضهم من أنه يجب اعتقادهم وتعظيمهم ، ويحرم النظر في كتبهم على من لم يتأهّل لتنزيل ما فيها من الشطحات على قوانين الشريعة ، وقول بعض جبهذة الفقه والأثر : (أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم) غير معتبر ، وإن جلّ قائله ؛ كيف وهو قد ملأ كغيره كتبه الفقهية والحديثية بتأويل النصوص والوجوه؟! واعتنى عليه بالجمع بين الكلامين المتناقضين ، وتنزيل الخلاف على حالين.

وقد وقع لجماعة من الكبار الرجوع عن الإنكار ، وكان العزّ بن جماعة ينكر ، فرأى في منامه جماعة قد أوقفوا بين يدي الشيخ ، وقيل له : هؤلاء منكرون. فقطع ألسنتهم ؛ فانتبه مذعورا ، ورجع.

وقال لي شيخنا الرملي : إن بعض المنكرين رأى أن القيامة قد قامت ، ونصبت أواني في غاية الكبر ، وأغلي فيها الماء حتى تطاير منها الشرار ، وجيء بجماعة ضبائر ضبائر ، فسلقوا فيه حتى تهرى العظم واللحم ، فقال : من هؤلاء؟ فقيل : الذين ينكرون على ابن العربي وابن الفارض اه.

مات رضي الله عنه سنة اثنين وثلاثين وستمائة ، ودفن بالقرافة بمصر ، ورئي في النوم ، فقيل له : لم لا مدحت المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ديوانك؟ فقال :

أرى كلّ مدح في النبيّ مقصّرا

وإن بالغ المثني عليه وكثّرا

إذا الله أثنى بالذي هو أهله

عليه فما مقدار ما يمدح الورا

وقد قال أحد العلماء بالله : إن الشيخ ابن الفارض يأتي يوم القيامة يمدح الله على رؤوس الأشهاد ، ويقال له : امدحنا كما كنت تمدح في الدنيا.

ولنختم تلك الترجمة بعد ما نوّهت لك على حقيقة الإنكار على السادة الصوفية بقول الله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود : ١١٨] ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشعراء : ٢٢٧].

٣٠٧

اليمن» (١) ؛ لأن النفس الرحماني ؛ هو التجلّي الساري في جميع الموجودات ، وهو أحدي لا كثرة فيه بالفعل ؛ لأن الأحد الواحد الصمد يأبى أن يكون تجلّيه على حدّ الكثرة ، والكثرة في التجلّي اعتبارية بحسب المجالي والقوابل ، لا حقيقة ، وإلا يلزم أن يكون الحق تعالى محلّ الكثرة سبحانه هو هو على وحدته ووجوبه ، والأشياء أشياء على كثرتها وإمكانها.

فإن قلت : قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٢].

يدلّ على الكثرة في النفس الرحماني والتجلّي الإلهي ، فإن المراد بالمؤمنين ؛ هم الأنصار اليمنيون ، وقد أيّد الله تعالى بهم حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولا شك أن التأييد بالجموع إنما هو من شأن الواحدية التي مبدأ الكثرة.

قلت : جوابه مفهوم مما ذكر آنفا ، وهو أنهم وإن كانوا أكثرين ، فالتجلّي لهم واحد فظهر أن التجلّي الواحد ينبسط في مراء مختلفة حقيقة ، ويتفضّل في مكان واحد ؛ هو اليمن باعتبار المتمكنين ، فإن قلت : إن المدينة المنورة لدلالتها على مقام البقاء ؛ هي محلّ الكون لا الشام ؛ قلت : نعم ؛ لكن لمّا كان اتصالها بمكة المكرمة أشدّ ؛ جعلت في حكمها ؛ كأنها أيضا واد غير ذي زرع ، وأرض قفر لا ماء فيها ولا كلأ نحو مقام الأحدية الذاتية.

ولذا قلنا : إن الشام محلّ الكثرات ، وكذا ما دونها من بلاد العرب والروم ونحوها ، وفيها سرّ المحفل الحنفي في حرم الله تعالى ، فلينظر العارف لنفسه حرما آمنا ، وذلك بنظر الله تعالى لا بنظر نفسه ، فمن كان من أهل البقاء ، وأهل الدعوة والتبليغ ؛ فالأداني والأقاصي له سواء ، هذا والله يفعل ما يشاء.

__________________

(١) رواه الطبراني في مسند الشاميين (٢ / ١٤٩) ، وذكره العجلوني في الخفا (١ / ٢٥١).

٣٠٨

وارد في الجامع الأموي

بدا في الجامع الأموي في صباح العيد الفطري سرّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صام رمضان ، ثم اتبعه ستّا من شوال كان كصيام الدّهر» (١).

وهو أن الدهر هو الآن الغير المنقسم الساري سرّه في جميع الأوقات والآنات.

منه : قيل أن الدهر هو الله ، يعني : أن المتجلّي بذلك الدّهر هو الله وهو التجلّي البرقي الذي نوره مبدأ الأنوار العالية.

ومنه : نور ليلة القدر ؛ فإنه ليس من أنوار الدنيا ، فإنها في مقابلة الظلمات ، وكل منهما مخلوق بل هو من جنس النور الشعشعاني الذي يختطف البصر وإنما يستره الظلالات الكونية ، كما يستر الشمس العماء وهو الحجاب الأبيض ، والسحاب الرقيق.

ومنه : يعلم سرّ قوله : «فإن الله تجلّى في عماء ؛ ما فوقه هواء ، ولا تحته هواء» (٢)(٣) : أي لا تعينات إلهية ، ولا تعينات كونية بل هو التعيّن الأول الذي استتر

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه أحمد (٤ / ١٢) ، والديلمي في الفردوس (٣ / ٢٦٨).

(٣) هو في اللغة بمعنى : السحاب الرقيق ، على الأول بمعنى : الحضرة الأحدية ، وعلى الثاني : بمعنى الحضرة العلمية ، فالمشترك مستعمل في كلا معنييه على تقدير التعميم ، أو يجعل من باب عموم المجاز.

ووجه المناسبة بين المنقول منه ، والمنقول إليه : أن السحاب بين السماء والأرض ، والأحدية بين الغيب المطلق والواحدية ، والعلم بين العالم والمعلوم ، وفي كلامه ـ قدّس سره ـ إشارة إلى أن الإفاضة على طبق العلم ، والعلم تابع للمعلوم ، فكل ما في الخارج محتذى على طبق عينه (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ)[الملك : ٣].

وكون العلم تابعا للمعلوم بالنظر إلى حضرة الأعيان القديمة التي أعطت الحق العلم التفصيلي بها ، وأما بالنظر إلى رتبة العلم الإجمالي الكلي ، فالمعلوم تابع للعلم ؛ لأن الحق لما تجلّى من ذاته لذاته بالفيض الأقدس حصلت الأعيان واستعداداتها ، فلم تحصل عن جهل تعالى الله عن ذلك.

ويوصف العماء بالرباني نظرا للفيض المقدّس في صورة التعميم ، أو لأن صفة التربية كانت كامنة في الحضرة الأحدية ، وآخر عطف على أول التنزلات الظهورات الأكملية ؛ إذ هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاية

٣٠٩

__________________

ـ الغايات ، وأكمل كمال النهايات التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، كيف وهو الظهور التام ، والمظهر العام ، وليس في الإمكان أبدع مما كان ، ولو كان لكان ، فإنه لأشرف من الوجود ، وقد تجلّى به كمال التجلي في الحقيقة والشهود.

وهو مرتبة الأحدية ، كما صرّح به الشريف الجرجاني في تعريفاته.

وهذا بناء على ما قررناه من حملنا التعينات على قيودات الذات الأوليّة ، التي في مقابلتها الصور العلمية كما ذكرناه ، هذا وإن كان صحيحا في نفسه ؛ لأنه من اصطلاحاتهم ، فهو غير مراد هنا لحضرة الشيخ ، وإنما ذكرناه تتميما للفائدة.

وقيل : إنما يراد بالعماء النفس الرحماني الذي يعبر عنه بالوجود الحق المتعين بالتعينات ، وهو أول غيب ظهر ، وبه وفيه ظهرت صور الأشياء ، والربّاني نسبة للرب تعالى ؛ لأن الحق فيه من اسمه الرب.

كما أنه على العرش باسم الرحمن ، وهذا العماء أين الحق ، وهويته : أي أول ما ظهر فيه تعالى.

وشاهد ذلك حديث : أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان في عماء ما تحته هواء ولا فوقه هواء».

دفعا لتوهم أن يراد بالعماء معناه اللغوي ، الذي فوقه هواء وتحته هواء ؛ لأنه عبارة عن الغيم الرقيق ، وإذا كان أين الرب تعالى كان عينه ؛ لأنه لا يكون هوية له تعالى إلا عينه ، وعلى هذا يكون المراد بالتعينات ما يعين النفس الرحماني حتى يكون بذلك التعين أعيانا وجودية علمية ، سواء كانت غيبا كالأرواح والعقول والنفوس ، أم شهادات كالجسم والفلك ، الكل فما تنازل عنه من عالم الشهادة ، ولا شك أن أول التعينات : أي أول ما تعين به هذا النفس الذي هو العماء ، وكان عينا وجودية هو الصورة المحمدية المعبر عنها بالعقل الأول ، والقلم الأعلى ، والنور المحمدي ، والحق المخلوق به ، وقد يعبر عنها بالإنسان الكامل ؛ إذ الظاهر مطابق للباطن ، يعني كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول التعينات في عالم المعاني كما ذكرنا ، كان أول التعينات في الظاهر.

ولو كان غيبا فيكون مبدأ في كل عالم ، ومنه تتفرع الأشياء ؛ إذ هو الأب الأكبر.

قال العارف ابن الفارض مترجما عن لسان الحضرة :

وإنّي ، وإن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوتي

شاهد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول ما خلق الله نوري».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وكنت نبيّا وآدم بين الماء والطين».

وحديث الكوكب عند سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عن عمره فقال : «إن كوكبا يظهر في كل سبعين ألف سنة

٣١٠

شمس الذات البرقية في ظلّها ، وتلك الشمس بجليّة إلى الآن من المجالي والمرائي ؛ ولكن لا يراها الخفاش ؛ لما على بصره من حجاب الكون ؛ وهو الضعف والعمش ، وكذا حجاب القلب ؛ وهو حجاب الكون ، ولو لا الكون لظهر المكون بالكسر على بصر كل بصير في الظاهر ؛ ولكن لا يراه إلا من كشف الحجاب مطلقا جسمانيه وروحانيه.

__________________

ـ مرة ، وإنى شاهدته سبعين ألف سنة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا ذلك الكوكب».

فإن قلت : كيف ذلك العدد والمبالغة فيه؟

قلت : إذا صحّ الحديث فلا إشكال ؛ إذ ذلك كان في عالم الأرواح ، وهي قديمة عندهم قدما غير ما يقوله الحكماء.

فإن قلت : كيف تكون قديمة وهي مخلوقة؟

قلت : لا منافاة كما تقدّم قبل هذا.

وقد ذكر حضرة الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات في الباب الحادي والسبعين بعد الثلاثمائة مسائل تتعلق بهذا البحث.

ولنذكر نبذة منها تبركا بأنفاس الشيخ ، قال رضي الله عنه :

ثم أوجد في هذا العماء جميع صور العالم ، الذي قال تعالى فيه أنه : (هالِكٌ)[القصص : ٨٨] ، يعني من حيث صوره لا وجهه ، يعني إلا من حقيقته ، فإنه غير هالك ، ولا يمكن أن يهلك.

أقول : قد جعل حضرته رضي الله عنه في غير هذا الموضع وجه الشيء عبارة عن الحق تعالى.

قال البيضاوى : في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)[القصص : ٨٨] : أي إلا الجهة التي تلي جهته تعالى.

ثم قال الشيخ : فصورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية ، ثم اختلفت فيها صور الأشكال إلى ما لا يتناهى ، حكما لا وجودا.

أقول : عنى بقوله : (حكما لا وجودا) أن وجود العالم متناه بتناهي الدنيا دون حكمه ، فإن له حكما في البرزخ غير هذا الحكم ، وكذا في الدار الآخرة.

ثم قال : والملائكة الحافون حول العرش ما لهم سياحة إلا في هذا العماء المستدير ، الذي ظهر فيه عين العرش على التربيع ، وحملته من صور المعاني ، وصور أجسامها الحروف الدالة عليها ، وهي : أب ج د ه وز ... إلخ.

وفيه ظهرت الملائكة المهيمة ، والعقل والنفس ، والطبيعة الذاتية ، التي هي عين هذا النفس الرحماني بما فيه ، وهي غير الطبيعة التي رتبتها دون النفس التي قال بها الحكماء ، فإن حضرة المولى لا يقول بها أصلا.

٣١١

فالأولى : حجب ظلمانية ؛ وهي من المواليد إلى نهاية العالم الطبيعية الذي هو عالم الملكوت العرشية ، وهو إلى غاية الغايات التي لا يجوز كشفها من قبيل الحجب النورانية.

والوجود الإنساني معدن لكل نور ، ومنبع لكل ظلمة ؛ وهو اللوح الأصلي الذي كان اللوح المحفوظ صورته ، فإذا عرفت هذا فاعلم أن الله تعالى تجلّى بالنور البرقي الشعشعاني ليلة القدر لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستمرت تلك الحالة في وجوده إلى ست شوال ، فألحق صومها بصوم رمضان ، فلمّا كان ظهور تلك الليلة في ما قبلها وما بعدها ، والمجموع ست وثلاثون ؛ كان صومها ؛ كصيام الدهر ؛ وهو صيام العمر كله ؛ لسرّ السرّ البائن المذكور.

فإن قلت : بالسريان والمستقبل لم يوجد بعد ، والماضي قد مضى ؛ قلت : لاتصال أجزاء الحال بأجزاء المستقبل والماضي ؛ فكان الكل بمنزلة زمان واحد ، ونظيره قوله : «من مات ؛ فقد قامت قيامته» (١).

فإن أجزاء زمان الموت لمّا كانت متصلة بأجزاء زمان البرزخ ، وهي بأجزاء زمان الحشر ؛ كان الميت كأنه قامت قيامته على أن الماضي والحال والاستقبال اعتبارية عند العارفين ، فإنهم لا يدرون الليل والنهار ؛ بل هم الآن في عالم الأزل الذي لا نور هناك ، ولا ظلمة ؛ لأن النور من خواص الأجسام الكونية ؛ وهم خارجون عن هذا العلم ؛ بل عن عالم الأرواح ، داخلون في عالم غيب الغيب الذي لا ليل فيه ولا نهار.

فإن قلت : هب إن من كان من أهل ذلك التجلّي ؛ كان صيامه كصيام الدهر ، وأمّا من لم يكن من أهله ؛ فكان أمره التقليد ، والتقليد لا يوصله إلى ما شاء والتحقيق ، قلت : إن فيه سرّ المتابعة والتشبّه ، وقد ورد إن : «من تشبّه بقوم ؛ فهو منهم» (٢) ، فهذا من طريق الإلحاق لا بالأصالة.

وقد قال تعالى : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١].

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه أبو داود (٤ / ٤٤) ، وأحمد (٢ / ٥٠).

٣١٢

ومما قررنا يعرف أن الأفضل الاكتفاء بإفطار اليوم الأول من شوال ، وإلحاق صوم الست بصوم رمضان ؛ لمراعاة الموافقة في الوقت فرع أقوال الفقهاء في ذلك ، واعمل بالأفضل ؛ فإنه عمل الكل.

فطوبى لمن كان من أهل الأنوار والأسرار ، وحافظ على أوقات الليل والنهار ، وكان شاهد القربة في الليالي والأسحار مشهودا للملائكة المقرّبين الأخيار ، فكان حافا محفوفا ، لطيفا ملطوفا ، والله تعالى على كل فيض قدير ، وهو العليم الخبير يعلم حيث يجعل كرامته ، ويفيض عليه رحمته.

وارد في شأن المرض

المرض نوعان :

مرض ظاهري : يخرج المزاج عن الاعتدال ، ويهلك ظاهر الوجود.

ومرض باطني : يوجب الميل والانحراف ، ويفسد باطن الوجود.

وكل ذلك بطريق الجبر والقهر من الأسماء الجلالية ، وضده الصحة والعافية ، وذلك بطريق الجذب واللطف من الأسماء الجمالية ولكن كما أن في الجلال جمالا وهو جمال الجلال ، فكذا في الجمال جلال ؛ وهو جلال الجمال.

فجمال الجلال باطن الجلال ، وكذا جلال الجمال باطن الجمال ، فكل من الجمال والجلال ظاهر وباطن.

والجمال الظاهر ؛ هو جمال المؤمنين ، كما أن جلال الظاهر ؛ هو جلال الكافرين ، وكل ذلك بالفعل.

وأمّا الجلال الباطن في المؤمنين ، وكذا الجمال الباطني في الكافرين ؛ فهو بالقوة ، فالأول لا يضرّ بالمؤمن ، والثاني لا ينفع للكافر ؛ لأن الاعتبار بالظاهر لا الباطن ، كما أن التأثير للباطن لا للظاهر ، والجمع بين الجمال الظاهر ، والجلال الباطن كمال ، وليس ذلك في الملك ؛ فإن ظاهره وباطنه جمال من حيث إنه مخلوق من النور ؛ ولذا كان البشر أقوى إحاطة وجمعية ، وإن كان الملك أعلى مكانة ومرتبة ، وسرّ الكمال هو ظهور التجليّات كلها من مرآة الإنسان الكامل.

ولذا قالوا : إن المتروحن أنقص حالا من غير المتروحن ؛ لأن المتروحن بسبب

٣١٣

غلبة الروحانية ملتحق بالملك ، فالكامل هو الذي يرى في مرآته جميع الصور بحسب التجليّات الإلهية المختلفة ، ثم الهلاك إمّا بالاضطرار ؛ فذلك إهلاك الباقي بالطبع ؛ وهو الموت الطبيعي ، وصاحبه مقهور مردود إلى الله تعالى بالقهر الجلالي كما دلّ عليه قوله تعالى : (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨] بضم التاء : أي تردّون ردّا عنيفا.

وإمّا بالاختيار ؛ فذلك هلاك الفانين عن الطبع ؛ وهو الموت الفنائي ، وصاحبه مجذوب إلى الله تعالى بالجذب الجمالي كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٤٥]. بفتح التاء : أي رجوعا خفيفا ، وكل منهما مقبوض من الكثرة إلى الوحدة ، ومن الفرع إلى الأصل ، ومن الواحدية إلى الأحدية ، ومن التفصيل إلى الإجمال ؛ وهو السرّ في قيام الساعة ؛ لأن كل شيء يرجع إلى أصله.

فالهالك الاضطراري ؛ كالعبد الآبق يرجع إلى مالكه ، وهو مغلول ، والهالك الاختياري ؛ كالقادم من الحج مثلا يرجع إلى أحبابه ، وهو ملتفت منظور ، فعليك بعلاج المرض الباطني ؛ ليصحّ روحك بالانقطاع من التعلّقات ، والانفصال عن الميل إلى الكائنات ؛ حتى يكون قدومك إلى الله تعالى قدوم الغائب إلى أحبّ أهله.

وذلك ان العافية من التعلّقات تصحّح المناسبة الذاتية ؛ لأن التجلّي الإلهي الساري في الموجودات صاف خالص عن الكدورات ، وإذا اتحدّ بالمحلّ في تلك الصفوة لم يبق له سوى الجمال ؛ إذ الجلال إنما ينشأ من الكدورات الحاصلة من التعلّقات ، وغلبة الجمال تقابل الجلال الذي يحصل بالموت ؛ لأن العبد يكره الموت بالطبع ، فإذا ليس للإنسان الحقيقي الأنوار الجمال ، وسرّ الكمال ، وليس له نار القهر والجلال ؛ ولذا كان حاله أيسر من حال غيره في الانتقال من موطن إلى موطن ، وإن كان أشدّ البلاء على الأصفياء في النشأة الأولى ، فذلك لا يؤثّر في بواطنهم ؛ لكونهم مع الله تعالى معلويين ، والله المعين.

وارد في المرسلين (١)

__________________

(١) انظر : التمهيد (ص ١٠٤) ، وشرح الأصول الخمسة (ص ٥٦٣ ، ٦٠٠) ، وتثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار ، والتوحيد (ص ١٧٦) ، وأصول الدين للبغدادي (ص ١٥٣ ، ١٨٣) ، والإرشاد للجويني (ص ٣٠٢ ، ٣٥٧) ، ولمع الأدلة (ص ١٠٩ ، ١١٢) ، والعقيدة النظامية (ص ٦٣ ، ٧٦) ، والاقتصاد في الاعتقاد (ص ١٦٣ ، ١٧٥) ، وتبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي (٢ / ٤٨٣ ، ٥٨٥) ،

٣١٤

اعلم أن المرسلين على أنواع :

فمنهم : من أرسله الله تعالى إلى الخلق لإخراجهم من الظلمات إلى النور ؛ إذ فيه سلامتهم في الدّارين ، فيسري سلامة المرسلين إلى المرسل إليهم ؛ فالكل سالمون داخلون تحت الاسم السّلام ؛ لأن المطيع لمن أرسله السّلام سالم ، وهؤلاء المرسلون هم الأنبياء عليهم‌السلام ، وإرسالهم إرسال حقيقي من الوجهين الخاص والعام ؛ وهم مؤيدون منصورون ، إمّا بالحجة والسيف جميعا ، وإمّا بالحجة فقط.

قال تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام : ١٤٩] ، ومنه يعلم إن المقصود الأصلي : إلزام الدين بالبرهان.

وإمّا السيف : فإنما هو لدفع شر الأعداء ، ولولاه ما ظهر السيف في العالم أبدا ؛ لأن الإنسان بنيان الله ، فلا يهدم إلا بناء على ضرورة قوية.

ومنهم : من أرسله الله تعالى إليهم أيضا لذلك المعنى ؛ وهم أيضا سالمون بفضل الله تعالى ، وهم ورثة الأنبياء ، والعلماء بالله ، وإرسالهم إنما هو من الوجه الخاص فقط ؛ لأن الملك لا يرسل من الوجه العام إلا إلى النبي ، فدعوتهم كدعوة الأنبياء كما قال : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف : ١٠٨].

ودعوتهم إلى التوحيد الأفعال ، والصفات ، والذات ، وإن كانوا لا يجابون إلى جميع هذه المراتب في كل زمان بحسب اختلاف المشارب ، وضعف الاستعدادات إلا ورثته هذه الأمة المرحومة ؛ فإنهم أهل المراتب جميعا ، ولهم دعوة مطلقة ، وإجابة مطلقة إلى آخر الزمان لقوة استعداد الأمة ، وكمال قابليتها ، ولله درهم في كل عصر

__________________

ـ وبحر الكلام له (ص ٥٩) ، ونهاية الأقدام في علم الكلام (ص ٤١٧ ، ٤٧٧) ، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين (ص ٢٢١) ، والأربعين في أصول الدين للرازي (ص ٣٠٢ ، ٣٨٤) ، وأصول الدين للرازي أيضا (ص ٩١ ، ١٠٥) ، وغاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ٣١٥ ، ٦٣٠) ، والمسامرة بشرح المسايرة للكمال (ص ١٧٨ ، ٢١٢) ، وشرح المقاصد (٢ / ١٢٨ ، ١٥٣) ، ونشر الطوالع (ص ٣٣٠ ، ٣٤٥) ، وشرح الفقه الأكبر (ص ٦٩ ، ٧٠ ، ٧٩) ، ومختصر شرح العقيد الطحاوية (ص ٣٧ ، ٤٣) ، والأساس لعقائد الأكياس (ص ١٢٥ ، ٢٤٣) ، ورسالة التوحيد (١١٤ ، ٢٠١).

٣١٥

كثّرهم الله تعالى ، وإن كانوا تحت القباب مستورين ، فهؤلاء المرسلون داخلون في المرسلين من طريق الإشارة ، والعبارة ، والإشارة واحدة عند أهل الإشارة.

وإنما جعلوا كلماتهم من طريق الإشارة صيانة لأنفسهم ، وكلماتهم من الأعداء ؛ وهم أهل الرسوم الطاعنون الخارجون عن حدود الله ، وحدود العقول أصلحهم الله تعالى.

ومنهم : من أرسله الله تعالى من نومه الحسي ؛ لإحياء الليل ، فلهم في ذلك سلامة ؛ لأن الروح يتخلّص به من الأمراض المعنوية ، إذ المناجاة ، وما يفيض من الله تعالى من العلوم والآثار تحيي النفوس ؛ فيكون اليقظة الحسّية مؤيّدة إلى اليقظة المعنوية ، فويل للغافلين النائمين ، وطوبى للمتيقّظين في الأسحار من العارفين العابدين.

ومنهم : من أرسله الله ، وبعثه من نومه المعنوي ؛ وهم أهل الحياة الباقية ، والتجليّات العالية ، فوصلوا إلى صباح التجلّي ، وإشراق النور في ليل البشرية ، وظلمة الطبيعة ؛ فكانوا في الدنيا كأنهم في الآخرة ؛ لأنهم في مقام صدق عند مليك مقتدر ، فكان كل من المتيقّظين سواء كانوا متيقّظين من النوم ، أو من الغفلة ، سالمين من شرور النفوس ، وكدورات الطبيعة.

والثاني أقوى من الأول ؛ إذ ليس كل متيقّظ صورة من أهل المناجاة ، ومن أهل النجاة مطلقا بخلاف المتيقّظ معنى ، ولكل من هؤلاء المتيقّظين آثار وعلامات يعرفون بها كما قال تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) [الفتح : ٢٩] ، فالوجه واحد ، والنظر متعدد ؛ لأن الفراسة الحقيقية لم تعط الكثير من الناس ، وإنما لهم الفراسة الطبيعية ؛ بل ليس لكثير منهم فراسة ونور أصلا ؛ ولذا لا يبصرون أهل النور ، والسرور ، والحبور.

وارد في الأذكار المقبولة

استغفر الله (١) : هذا طلب المغفرة ، والستر للمعصية إن كان المستغفر من أهل

__________________

(١) الاستغفار : هو طلب المغفرة من الله تعالى للذنوب فإن العبد إذا أذنب ذنبا فقال : رب اغفر لي يقول الله تعالى قد علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت له وأحسن أوقات الاستغفار الأسحار فإن الرب يتنزل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا فيقول : «هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟»

٣١٦

الشريعة. وطلب المغفرة والستر للتلوين إن كان المستغفر من أهل الطريقة.

وطلب المغفرة والستر للهيئات المظلمة إن كان المستغفر من أهل المغفرة.

وطلب المغفرة والستر للوجود الخلقي الفرقي إن كان المستغفر من أهل الحقيقة.

ومنه ما في سورة النصر من قوله تعالى : (واستغفره) : أي اطلب من ربك ستر

__________________

ـ ولا يزال يقول ذلك حتى يطلع الفجر.

فيا من رفع السماء بروح قدرته وفتح أبواب المغفرة بأرواح رحمته أسلك المغفرة العامة والستر الجميل وكيفية الاستغفار اللهم اغفر لي وارحمني برحمتك الواسعة يا أرحم الراحمين أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله الذي لا إله إلا إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه (رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.)

ومن الأرواح المحمدية روح فرقاني في أرواح الاستغفار : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)[نوح : ١٠] من عادته الغفر فإذا استغفرتموه والاكم بأرواح الغفران وعمكم بأنواع الإحسان فروح الاستغفار فيها روح وصل بذكر الله ، وروح فصل عن محارم الله فإن الاستغفار فيه روح كراهة لأرواح الذنوب.

وذلك بروح فصل يفصل الأرواح الظلمانية من الأرواح الشيطانية المتعلقة بالفلك السفلاني وهو فلك المخالفات بأرواح المحرمات والمكروهات.

فانظر ما في الاستغفار من أرواح الأنوار التي يرفع الله بها أرواح العذاب عن أرواح الأحباب ؛ فإن أرواح المستغفرين من أرواح المتطهرين والله لا يضيع أرواح المحسنين ولو بالاستغفار في روح من ليل أو نهار ، وفي روح الثلث الآخر من الليل له روح طلب من الله ففي الروح المحمدي ، والفضل الأوحدي : «ينزل ربكم كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه».

روح نعيم بعد روح تخصيص فإن روح التائب على روح القبول طالب فهو سائل من الرب الرحيم الخلاص من روح الجحيم والمستغفر طالب لروح الغفران لأن روح الجناية من أرواح العصيان والسؤال أعم فهو من الأرواح العامة في أرواح الحاجات وأرواح الأعظم قد تكف بأرواح القبول لأرواح الدعوات.

ففي روح الاستغفار روح وصل بروح العطف ، وروح فصل من الأرواح الظلمانية ، وروح حركة باللسان وروح سكون بالجنان إلى روح الغفران.

٣١٧

الوجود الخلقي الفرقي ، فإنه قد تمّ أمر التبليغ ، وانقطعت العلاقة بينك وبين الخلق ، ولو كان الخلق سبّحك الشريف اللطيف النوراني الروحاني ، فكن بعد ذا معي بالوجود الحقي الجمعي ؛ لدنو انتقالك من عالم الملك ، ورجوعك من الصورة إلى المعنى ، ومن الجسد إلى الروح.

وهكذا حكم الكمّل من الورثة ، إذ انتقالهم من هذه الدار إلى الدار الآخرة ، ولما كان السين للطلب ، والطلب قد يكون باللسان ، وهو لا يتم إلا بالرجوع القلبي حقيقة أضيف إلى الاستغفار التوبة.

فقيل : استغفر الله وأتوب إليه على ما نطق به القرآن ، حيث قال تعالى في سورة المائدة : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) [المائدة : ٧٤] ، وعلم ما قرّرنا أن الاستغفار ، ورد لا ينقطع ، ولا يسقط إلى آخر العمر ، لا عن نبيّ ، ولا عن وليّ ، فإنه أمر جار في كل مقام بحسب كل حال.

سبحان الله (١) : تنزيه لله تعالى عن ملابسته للكون ، وملابسة الكون له ، وهو

__________________

(١) فصل بروح وصل في روح سبحان الله وبحمده : ففي الروح المحمدي من قالها في يوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر أي في التتابع والكثرة التي لا يقدر على أرواح إحصائها البشر روح بيان في هذا الروح المحمدي المسبح لما ذكر الله بأرواح التنزيه عن الإحاطة بأرواح عظمته فمعنى سبحان الله أن الله لا تحاط عظمته وأثنى عليه بكل حمده.

فإن معنى وبحمده وأقدسه بكل حمده الذي يستحقه على كل حال وهذا تعميم في أرواح التعظيم التي لا تحد فكان روح هذا الذاكر يستحق روح نعيم من الغفران لذنوب لا تحد من أرواح العمل فاعرف مقدار ذكرك يعظم روح شكرك في المائة مرة في روح من الكثرة فتوافقت الأرواح في التفكير والله على كل شيء قدير.

ففي سبحان الله وبحمده روح فصل لأرواح الخيال بصور الإحاطة بعظمة الله وأرواح مواهبه ، وروح وصل بأرواح التفكير وحركة باللسان بعظم هذا الشأن وسكون عن التعلق بغير هذا الميزان الثابت الرجحان.

ففي الروح المحمدي : «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».

٣١٨

في تجلياته غنيّ عن العالمين ، فالله هو هو ، الأشياء أشياء ، فالله لا يكون عبدا ، كما أن العبد لا يكون ربّا.

ولذا قال بعض الأكامل : كن عبد رب ، ولا تكن رب عبد ، إشارة إلى التنفير عن الظهور بالصفات الإلهية بين الخلق ، كما عليه أهل المكر ، ولا يعرفه إلا أهله. فقد اختار الكمّل الستر ، وترك التصرف ، والظهور بالعجز والضعف والافتقار.

والحمد لله : أي على إظهار كماله في تجلّي ألوهيته ؛ إذ به يظهر المراتب لكل متقدم ومتأخر ومسخر ومسخر له ، وبه ينتظم أمر العالم ، ويتم النعمة.

ولله الحمد على ذلك ، فإن كل ما أظهره وأوصله فنعمة محمودة محبوبة ، وليس فيه أمر مكروه إلا بحسب الطباع ، وذلك لا يستلزم كراهته في نفسه ، وكونه مكروها بحسب الطباع من الحكمة الإلهية ؛ إذ به يظهر مقام الصبر ، كما أنه بالمحبوب يظهر مقام الشكر.

ولا إله إلا الله : أي في كل مقام التسبيح والتحميد والتنزيه والتشبيه ، والخلق والحق ، فمن كان محققا أخذ بالتوحيد والتجريد والتفريد ، ومن كان خلافه وقع في الإلحاد والتقليد ، وما نجا إلا المحقق ، فعليك بطريقه ، والأخذ من ثمرات تحقيقه ، فقد كنت واصلا إلى سر وحدة الوجود ، وأدمت الشهود ، وأقمت السجود.

والله أكبر : أي له الكبرياء الزائدة البالغة ، وله العظمة الكاملة الجامعة ، ومنه قول المصلّي : الله أكبر في جميع الأفعال والانتقالات ؛ إشارة إلى تنزهه تعالى عن التقيد بالقيام والقعود ، ونحو ذلك ، فإن التقيد يوهم التغيّر ، ولا تغير على الله في ذاته وصفاته. ولا حول : أي عما سوى الله ، ولا قوة : أي على الإقبال إلى الله. إلا بالله (١).

__________________

ـ وما كان محبوبا إلى الرحمن عمته رحمته وفازت بأرواحه أرواح الذاكرين والله يحب المحسنين بكل الأذكار فلا يبقي عليهم روحا من الأوزار.

(١) قال سيدي ابن سبعين : اعلم أن لا حول ولا قوة إلا بالله. يجب عليها الأدب والاستغفار عند الخواص إذا تمت على سدادها ، فيكف قول أنت أنت لمن إذا أطلق القول عليه مع العدم بترادف

٣١٩

فإن أعانك فلك التحول والإدبار ، ولك القوة على الإقبال ، فإن كل كمال إنما هو بالله ، كما قال : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [النحل : ١٢٧] ، العلي ناظر إلى ظرف التنزيه ، وجانب الكبرياء العظيم ناظر إلى ظرف التحميد والألوهية ، فاعرف.

لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، الجلالة مع الاسم محمد ، كقوله تعالى : رسل الله ، الله ، وإن كان الاسم (محمد) مقدما على الرسول ، فإن المعنى واحد في صورة التقدّم والتأخّر.

فإن قلت : ما ذكره لمساعدة الإعراب.

قلت : هذا الذي ذكرته من قبيل الإشارة الخارجة عن اعتبار الإعراب ، لا من قبيل العبارة المقتضية لذلك ، نحو قول صاحب القصيدة البردية : أمن تذكره ، فإنه في صورة آمنت الذي هو المطلوب ؛ لكون الناظم مقلّدها ، فمثل هذه الصورة يعتد بها عند أرباب الإشارة ، وأهل النقول.

وسرّ هذا دقيق لا ينتهي إليه إلا الأولياء ، وذلك أن أصل محمد أحمد ، وأصل

__________________

ـ يسأل عنه المتكلم ؛ لأنه أضاف بعض المعلومات على رأي بعض الناس إلى شيء لا ينسب لشيء من هذا كله عند كل الناس! فإن كلمة : «لا حول ولا قوة إلا بالله» إن كان قالها وهو لم يعلمها إلا وقت همّه وامتحانه ، فهذا فيه ما فيه ، وإن كانت المحنة هي التي ذكرته فأنحس وأخس ، وإن كان استعان بالله على بعض أفعاله فهو من الأمور المضحكة ، وإن كان قالها عبادة ، فأمره يتحمل وينحط عن رتبه الخواص. وإن كان قالها دون شيء ولا لها معتبر إلا مفهوم الذكر ، فذاته أولا.

وبالجملة : هي كنز من كنوز الجنة ، وكنوز الجنة هي من بعض أسباب بعض منّه.

واعلم أن الذي يطلب الجنة ولا يعتقد أنها سبب القرب إلى رؤية الله ، فأهل النار أحسن منه بالنظر إلى همته ومن جهة تعظيم المطلوب لا بالنظر إلى سخط الله.

والجنة من جملة الخيرات التي تراد لغيرها ، هذا عند الضعفاء وفي سلوك الأرواح وهمم بعض المجردين.

وبوجه آخر لا يهمل الوجود على أي وجه كان وفي أي مظهر تصور ، ولا يتنوع في ذاته الموجودة ، والتقديم والتأخير لا يغتبط به السعداء من نصح ، وأجاب ، فهم من الضعفاء ، وإلا أن تكون النصيحة من بعض أخباره المهملة ، والناصح ضد ذلك الناصح.

٣٢٠